مقالات

من النادر أن يُقرّ نظام استعماري استيطاني أن أدواته العسكرية باتت عبئًا عليه، وأن آلته الحربية المتفوّقة، عدديًا وتكنولوجيًا، قد أضحت فريسة للكمائن والعبوات، في سياق حرب غير متكافئة من حيث الموارد، لكن متكافئة، حتى راجحة، من حيث الإرادة. "إسرائيل"، اليوم، في قطاع غزة، لا تبدو فقط عاجزة عن تحقيق أهدافها العسكرية، هي أيضًا تبدو وكأنها تسير إلى الوراء، محمولة على "عربات جدعون" التي بدأت تتصدّع تحت وقع الضربات المقاومة.
خلال الأسابيع الماضية، سُجّلت خسائر بشرية ومادية متصاعدة في صفوف "الجيش الإسرائيلي"، أبرزها مقتل 20 جنديًا في أسبوع واحد فقط، "كما جاء في بيانات العدو الرسمية". وهذا يعيد إلى الواجهة معادلة كُسِرت منذ الأشهر الأولى للعدوان: أن الجنود "يقاتلون من وراء الشاشات".
هذه الخسائر، على رمزيتها، تعيد طرح السؤال الجوهري: هل باتت حرب غزة عبئًا استراتيجيًا على "إسرائيل"؟ وإن كانت كذلك، فهل تنجح في الخروج منها من دون هزيمة معلنة؟.
الاستنزاف بوصفه نتيجة منطقية
حين تتحوّل الحرب إلى استنزاف يومي بلا أفق، فإن ذلك لا يشير إلى فشل تكتيكي، بل إلى انهيار المفهوم الاستراتيجي نفسه. الخطة المسماة "عربات جدعون"، والتي بدأت بصفتها حملة عسكرية برية موسّعة تهدف إلى "إزالة التهديد الوجودي"، كما سوّق لها الإعلام العبري، انتهت إلى كونها مسرحًا متكررًا لكمائن ميدانية، تذلّ فيها المدرعات الحديثة، وتُصطاد ناقلات الجنود كما تُصطاد الفرائس في العراء.
من خان يونس إلى شرق غزة، ومن الزنة إلى جباليا، لم تعد العربة المدرعة "إيتان" أكثر من تابوت متحرّك، ينقل الجنود إلى موت شبه مؤكد، على الرغم من التفوق الجوي والتقني؛ حتى منظومات الحماية النشطة، والتي طالما تغنّى بها "الجيش الإسرائيلي"، أثبتت فشلها أمام عبوات المقاومة المصنوعة يدويًا. هذا يكشف خللًا بنيويًا في التعويل المفرط على التكنولوجيا من دون فهم لطبيعة "الحرب الشعبية" التي تخوضها حماس وفصائل أخرى.
لعبة الأوهام في "الكابينت"
يرفض نتنياهو الاعتراف بهذه الحقيقة؛ فبالنسبة إلى رجل يحكم بمنطق البقاء السياسي لا مجال للهزيمة ولا حتى للانسحاب، إلا إذا طُلي بغلاف لغوي منمّق: "تحقيق الأهداف التكتيكية"، أو "ضمان الردع"، أو "الانتقال إلى مرحلة ما بعد حماس". لكنّ المؤسسة العسكرية بدأت، على استحياء، تهمس بما لا يريد سماعه: "لقد وصلنا إلى الحائط".
جيش الاحتلال أبلغ المستوى السياسي أنه يسيطر على 60% من القطاع، وسيصل إلى 80% خلال أسابيع. ولكن، ما هو معنى السيطرة في حرب المدن؟ وهل يمكن تعريف النجاح العسكري في احتلال أنقاض؟ وهل يُقاس النصر بعدد الأنفاق المهدّمة، أم بعدد الأطفال الذين استشهدوا؟ في العقل الاستعماري، لا تُطرح هذه الأسئلة، لكن على الأرض، المقاومة تطرحها كل يوم، وبالدم.
حرب بلا غاية.. كيان بلا رؤية
الفجوة الكبرى تكمن في أن "إسرائيل" تخوض حربًا لا تعرف غايتها. تسأل صحافية "إسرائيلية" وزير الحرب: ما الهدف؟ لا إجابة واضحة. مجرد عبارات دائرية عن "ظروف مؤاتية"، و"استعادة الأسرى"، و"اليوم التالي". حتى أكثر الموالين لليمين بدأوا يعبّرون عن يأسهم، كما في حال عضو "الكنيست" عميت هاليفي، والذي اعترف بأن لا شيء تحقق، وأن "حرب العصابات تتفوق على الجنرالات الذين خُدعوا بتفوقهم الجوي".
تحديدًا هنا بيت القصيد: "إسرائيل" ليست فقط في مأزق ميداني، أيضًا هي في مأزق سردي. لقد فشلت في السيطرة على رواية الحرب، ولم يعد العالم يتعاطى مع هجماتها على غزة أنه "رد فعل دفاعي". لقد باتت المجازر اليومية والأرقام المهولة للضحايا دليلًا على انهيار المعايير الأخلاقية والإنسانية، والتي طالما اختبأت خلفها في الغرب.
المقاومة فاعل عقلاني
على النقيض من صورة "الهمجية" التي يروّج لها الإعلام "الإسرائيلي"، تبدو المقاومة أكثر انضباطًا وتخطيطًا. تكتيك "اصطياد العربات" لم يكن فعلًا عشوائيًا، بل جاء نتيجة مراقبة دقيقة، واستدراجات مدروسة، وتكامل بين فرق الاستطلاع والهندسة والوحدات الميدانية. ومع كل كمين موثّق، تفقد "إسرائيل" جزءًا من هيبتها العسكرية.
هذا ما يفسّر لماذا لم تنجح عملية "عربات جدعون"، والتي راهنت عليها "إسرائيل" بوصفها "مضادة للأنفاق والكمائن"، في إنجاز مهمات نوعية وتحوّلت إلى فريسة، وسقطت في مناطق الزنة والسطر الشرقي والغربي، شرق غزة، وشمال جباليا. ولم يكن سلاح الجو إلا حبل النجاة الذي لجأ إليه الاحتلال لتغطية انسحاباته.
كلفة لا يمكن تسويغها
نحن أمام واقع عسكري جديد، جيش يرفض مواصلة القتال، لكنه لا يجرؤ على إعلان الهزيمة، ورئيس وزراء يرفض الاعتراف بفشله، ويستمر في تكرار الوعود، على الرغم من انفلات الأمور على الأرض. وعليه، فإن الكلفة البشرية – 880 قتيلًا من جنوده، بينهم 438 منذ بدء الاجتياح البري، "وفقًا لما أعلنه العدو"، تتحوّل تدريجيًا من "ثمن الحرب" إلى "سلاح المقاومة".
هذا ليس لأن عدد القتلى في ذاته مرتفع، بل لأنّ "إسرائيل" لم تعد تملك رواية تسوّغ فيه استمرار النزف. ومع تزايد الاحتجاجات الشعبية والتصدّعات داخل النخبة الأمنية، تصبح كل جولة قتال جديدة خطوة إضافية نحو الهاوية، لا نحو النصر.
الكمائن.. حين يتحوّل الاجتياح إلى فخٍّ مفتوح
في هذا الإطار، لا تبدو الكمائن التي تنفذها المقاومة مجرد ردود فعل ميدانية، هي رسائل مزدوجة تُرسل بدقة متناهية:
1. عسكريًا، تعني أن جيش الاحتلال لم يعد قادرًا على التحرك الآمن، حتى في المناطق التي يدّعي السيطرة التامة عليها. كلّ نقطة تماس باتت فخًا محتملًا. "السيطرة" في خطاب الجيش تتحوّل إلى عبء نفسي، لا واقع عملياتي.
2. سياسيًا، تضع المقاومة توقيعها الواضح: لا انهيار، لا انكفاء، بل قدرة متواصلة على المبادرة واستمرار في التحكم بإيقاع الميدان، على الرغم من القصف المتواصل والجوع والمجازر.
لكن الأهم أن استراتيجية الكمائن لم تعد تكتيكًا ظرفيًا، بل تحوّلت إلى أداة مركزية في عقيدة الاستنزاف التي تتبناها فصائل المقاومة، ضمن فهم عميق لطبيعة الصراع..
"الكمين، إذًا، ليس فقط فخًا لآلية أو كتيبة، هو كمينٌ لكل من راهن على الحسم العسكري، وصدّق أن غزة أرض مستباحة. إنه، في جوهره، أداة تُعيد تعريف مَن يملك زمام المبادرة، ومَن يُفرض عليه الانكفاء".