مقالات

مثّلت مواجهة الجمهورية الإسلامية في إيران للحرب "الإسرائيلية" الأميركية، نقطة تحول إستراتيجية في المشهد الإقليمي، بفعل ما ترتب عليها من نتائج في عدة اتّجاهات، وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات أيضًا. وفي نفس السياق، بما كشفته من معطيات نوعية ترتبط بمكانة إيران كقوة إقليمية صاعدة، وما راكمته من قدرات ردعية وعملياتية فرضت نفسها في أي حسابات أمنية أو سياسية تتصل بالمرحلة المقبلة.
أظهرت إيران في هذه المواجهة، التي اتّسمت بالمباغتة والكثافة النارية، قدرة فريدة على امتصاص الضربة، والصمود في وجه آلة عسكرية غربية مدججة بأحدث الوسائل التقنية، لتفرض في نهاية المطاف معادلة رد متماسك استمرت حتّى اللحظة الأخيرة من الحرب. ومما يزيد من أهمية هذا الإنجاز، أن طهران خاضت المواجهة دون أن تُفرّط بثوابتها أو تُقايض على أولوياتها الإستراتيجية.
تكريس إيران كقوة إقليمية صلبة
نجحت طهران من خلال هذه الحرب في تكريس موقعها كفاعل إقليمي لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. لقد واجهت حربًا ذات طابع شامل، شملت محاولات ضرب منشآت نووية وعسكرية، واختراقات سيبرانية، ومحاولات لعزلها سياسيًا، لكنّها برهنت على أنها تمتلك القدرة على الصمود والبقاء في قلب المعادلة الإقليمية، وفرض قواعد اشتباك جديدة من موقع القوّة.
هذه القدرة على الصمود رغم التضحيات الكبيرة، هو ما منح إيران حضورًا معنويًا وسياسيًا مضاعفًا، وجعلت من قوتها العسكرية امتدادًا لقوة سياسية مشروعة تسعى للدفاع عن سيادتها وجزءًا من معادلة القوّة الإقليمية.
ثباتها على خياراتها الإستراتيجية
من أهم الإنجازات السياسية لإيران خلال الحرب أن الحرب انتهت من دون أي قيود سياسية على خياراتها الإستراتيجية، لا في ما يتعلق ببرنامجها النووي، ولا في ما يخص نفوذها الإقليمي. لم تُطرح تسويات، ولم يُفرض عليها شروط جديدة. بالعكس، جاءت نتيجة الحرب لتعزز مشروعية الخيارات الإيرانية، وتؤكد أن الضغط العسكري لا يُفضي بالضرورة إلى نتائج سياسية في ظل وجود بنية صلبة ومتجانسة في القرار.
وبذلك أثبتت طهران أنها قادرة على خوض صراع مفتوح دون أن تُغير من موقعها التفاوضي، بل وأنها باتت تمتلك من أوراق القوّة ما يتيح مواجهة أي محاولات إضافية لفرض شروط وقيود عليها بعد فشل الحرب السابقة في هذا الاتّجاه.
اختراق فاعل لمنظومات الدفاع الغربية
من أبرز المفاجآت التي فرضتها إيران في هذه الحرب، نجاحها في تجاوز منظومات الدفاع الصاروخي المتطورة التي تعتمد عليها كلّ من "إسرائيل" والولايات المتحدة. لم تكن المسألة رمزية فقط، بل كانت ذات دلالة إستراتيجية عميقة، مفادها أن منظومات الاعتراض الصاروخي "الإسرائيلية"، (حيتس ومقلاع داوود والقبة الحديدية) والمنظومات الأميركية لم تعد ضمانة كافية لتحييد الخطر الإيراني.
هذا المتغير ستكون له مفاعيل واسعة، خاصة في "إسرائيل"، التي ستضطر إلى إعادة النظر في منظومة أمن جبهتها الداخلية، وفي كفاءة وسائل الردع التقليدية التي طالما اعتمدت عليها.
تحويل العمق "الإسرائيلي" إلى ساحة حرب
للمرة الأولى منذ حرب عام 1948، يجد الكيان "الإسرائيلي" نفسه أمام واقع جديد: الجبهة الداخلية لم تعد في مأمن من الاستهداف المركز والمدروس. لقد استطاعت إيران أن تنقل المعركة إلى عمق "الدولة"، وتضرب منشآت إستراتيجية في توقيتات مدروسة. هذه النقلة النوعية في الجغرافيا العسكرية قلبت قواعد الاشتباك، ووضعت قادة "إسرائيل" أمام احتمالات خطيرة في حال قررت استمرار الحرب لأمد طويل. وأيضًا في الاعداد لأي جولة قتال إضافية.
إن الفشل في حماية العمق "الإسرائيلي" كان العامل الأساس الذي أجهض سيناريوهات التصعيد الشامل التي كانت تراهن عليها "تل أبيب" وواشنطن، ما دفعهما إلى مراجعة سريعة ومبكرة لمسار الحرب ونتائجها.
تعزيز القدرات الردعية وترسيخها في القرار السياسي
من خلال القدرة على الرد بضبط عالٍ وتصعيد محسوب، نجحت إيران في فرض معادلة ردع جديدة ستكون حاضرة في أي قرار سياسي أو عسكري قادم في المنطقة. لم تعد الحرب ضدّ إيران خيارًا سهلًا، بل أصبحت مخاطرة عالية الكلفة، لا يمكن توقع مآلاتها بسهولة.
وقد أسهم هذا الإنجاز في تقليص هامش المناورة لدى الخصوم، ورفع من سقف الحذر والتردّد قبل الإقدام على أي عمل عدائي مستقبلي، لا سيما وأن القدرة على الردع الإيراني لا تنبع من مجرد التهديد، بل من تنفيذ فعلي وعملي ومدروس. لا يعني ذلك أنها لن تتكرّر ولكن لن تكون أوتوماتيكية وسيدفعهم ذلك إلى محاولة استنفاد الخيارات البديلة، إضافة إلى أن تكون مدروسة وربما أيضًا مضبوطة، تجنبًا لردود إيرانية دراماتيكية.
تجديد شعبية النظام وهويته الثورية
على المستوى الداخلي، وفّرت الحرب فرصة نادرة للنظام الإيراني لتعزيز صورته، وتجديد شرعيته الشعبية بعد سنوات من الضغوط الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية. فقد أعادت الحرب إبراز الهوية الثورية للنظام، وأحيت رمزية "الصمود والمقاومة"، وهو ما انعكس في ارتفاع منسوب الالتفاف الشعبي.
كما ساهمت هذه الحرب في تعزيز صورة الحرس الثوري ومكانته، وتهميش الأصوات الداعية إلى التقرب من الولايات المتحدة والمعسكر الغربي، حيث ظهرت هذه الخيارات على أنها "انهزامية"، ما أفرز مشهدًا داخليًا أكثر تماسكًا في وجه الضغوط الخارجية.
إعادة إحياء محور المقاومة
واحدة من النتائج المهمّة لهذه الحرب كانت إعادة الروح لمحور المقاومة الذي تلقى في السنوات الأخيرة ضربات متتالية، سواء في سورية أو العراق أو لبنان. أعاد الحضور الإيراني المباشر إلى جبهات متعددة، ولو بشكل غير معلن، إحساس الحلفاء بالثقة، ومفهوم التضامن الإستراتيجي العابر للحدود، وأكد أن طهران لم تتخلَّ عن شركائها، بل لا تزال قادرة على إحداث توازن ردعي جماعي.
كسر الاندفاعة الغربية نحو تغيير وجه "الشرق الأوسط"
أفضت الحرب، رغم قصرها الزمني، إلى كبح الاندفاعة الأميركية - "الإسرائيلية" نحو فرض "شرق أوسط جديد"، قائم على تفكيك المحاور وبناء تحالفات هجينة. لقد اصطدمت هذه الرؤية بجدار الردع الإيراني، وولّدت دينامية جديدة من التوّتر المدروس والتصعيد المُدار، تُبقي كلّ السيناريوهات مفتوحة، لكنّها تجعل فرض الإملاءات مستحيلًا.
في المحصلة، لم تكن إنجازات إيران في هذه الحرب ظرفية أو عابرة، بل مؤسِّسة لتحولات إستراتيجية ستؤثر في مسارات الصراع والتسوية في المنطقة. لقد أثبتت إيران أنها قادرة على الصمود والمواجهة، دون أن تخسر مشروعها، أو تفرّط في ثوابتها، أو تُضعف حلفاءها. والأهم، أنها خرجت من الحرب، ليس فقط بقوة عسكرية قائمة، بل بمكانة سياسية متقدمة في الإقليم والعالم.