اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي كاتب أميركي: الدعم المطلق لـ "إسرائيل" لا يخدم أميركا استراتيجيًا

مقالات

البطريرك الراعي والحياد الاستنسابي 
مقالات

البطريرك الراعي والحياد الاستنسابي 

109

رمى البطريرك الماروني بشارة الراعي سهمًا مع السهام التي أطلِقت في الحملة الإعلامية التي تستهدف حزب الله والمقاومة في لبنان. في مقابلته مع قناة "العربية" السعودية، بدا أن الراعي يقدّم طروحاته السياسية المباشرة ضمن سياق إقليمي ودولي، وتحديدًا ضمن السياق الأميركي - السعودي المتقاطع في واقع الحال مع السياق "الإسرائيلي" القاضي بتجريد حزب الله ومقاومته من سلاحه ومن أية شرعية. 

جاءت المقابلة ضمن سلسلة مقابلات أجرتها "العربية" من بيروت مع قيادات سياسية ودينية أبرزها الرئيس جوزاف عون، رئيس حزب "القوات اللينانية" سمير جعجع، رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، وزير الخارجية يوسف رجي. وكلها مقابلات لها هدف واحد ووحيد وهو تحشيد المواقف ضدّ حزب الله، في سياق الحملة المركّزة التي يقودها الإعلام السعودي المرئي والمكتوب لهذه الغاية. 

وقد بدت مقابلة البطريرك الراعي من أولها إلى آخرها موجَّهة بشكل خاص لحزب الله. وكانت الأجوبة غبّ الطلب. وجارى البطريرك الهوى السياسي الذي تعبّر عنه القناة السعودية. وهذا لا يعني أنه ليس مقتنعًا بما قاله، بل إن النبرة التي استخدمها في انتقاد حزب الله تناسب تمامًا التوجّهات السعودية التي تحاول تجريد حزب الله من هويته الوطنية من خلال ربطه الآليّ بإيران، فضلًا عن تجريده من أية شرعية قانونية. 

وقد طرح الراعي عددًا من الإشكالات في هذا المضمار: 

أولًا: لبنانية حزب الله. فقد وجّه رسالة إلى الحزب قائلًا "رسالتي إلى حزب الله. أعلنْ ولاءك النهائي للبنان". لم ينكر الراعي بالطبع أن أعضاء حزب الله لبنانيون، لكنّه شكك مرات عدة بولائهم للبنان، مُدعّمًا هذا الرأي بأن الحزب يتلقى الدعم من إيران. وإذا كان هو المقياس، فينبغي تصنيف أكثر القوى السياسية وحتّى جمعيات ما يسمّى "المجتمع المدني" في لبنان بأنها غير وطنية لأنها تتلقى الدعم المالي وغير المالي، بما فيه التوجيه السياسي، من حكومات أجنبية.
 
في موضوع حزب الله، يتعمد الكثيرون دائمًا الخلط بين تلقي الدعم من إيران وتلقي التوجيه السياسي منها. ولا بأس بالتذكير بأن العديد من المقاومات في التاريخ المعاصر كانت تتلقى الدعم والمساندة من قوى خارجية حليفة، لأن فعل المقاومة المسلحة يتطلب إمكانات وقدرات لا تتوفر ذاتيًا في غالب الأحيان. وهذا لا يُعدّ منقصة في ذاتها أو موجبًا لوصمها بأنها غير وطنية بسبب علاقتها بقوى خارج الحدود، خاصة إذا كان التحالف مبنيًّا على رؤية استراتيجبة مشتركة. والمقاومة الإسلامية في لبنان تُجاهر بأنها على علاقة إستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية في إيران وقوى مقاومة أخرى في المنطقة في مواجهة الأخطار الصهيونية. 

ثم، هل المطلوب أن يقاوم حزب الله مجرَّدًا من أية إمكانات ومن دون الاستناد إلى ظهر قوي حتّى يسهل على "إسرائيل" المدعومة بكلّ إمكانات الغرب التغلبُ عليه؟ ولماذا لا تضرب أحزاب وقوى لبنانية أخرى المثل من خلال قطع علاقاتها بقوى إقليمية ودولية تتلقى منها التمويل والإمكانات وهي لا تقوم بعُشر ما يقوم به الحزب من أعباء في أي مجال من المجالات العسكرية أو الاجتماعية أو التربوية أو الصحية؟ 

أيضًا، يعرف من يعرف من أهل العلم والخبرة أن حزب الله له شخصيته الاعتبارية القوية وقراره المستقل في إدارة المسائل التي تتعلق بلبنان، وله رأي مسموع في إيران في القضايا الإقليمية. وكان لسيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله موقعية قيادية في متابعة هذه القضايا، وكلمته كانت محترمة حتّى خارج النطاق اللبناني. وسبق لرئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو أن عبّر عنه بالقول إن السيد نصر الله كان "محور المحور". فهل تملك الكثير من القوى التي تهاجم وطنية حزب الله أمرها وقرارها في الشأن الوطني، كما يملك؟ 

ثانيًا: وجّه البطريرك في حديثه خطابًا يخصّ المسلمين الشيعة اللبنانيين، قائلًا إنهم "طائفة لبنانية مثل كلّ اللبنانيين"، وإن "أبناء الطائفة الشيعية سئموا الحرب ويريدون العيش بسلام". وهذا الكلام وإن اكتنفه قدر من الحرص، لكنّه يستبطن شيئًا مختلفًا حيث يضعهم في مقلب آخر غير مؤيد للمقاومة. والحال أن هناك غالبية من المسلمين الشيعة يحتضنون المقاومة ويعبّرون عنها بالموقف والفعل والتضحيات مما يراه العالم كلّ يوم. فإذا كان الشيعة لا يريدون المقاومة، فمن يتحدى الاحتلال على أرض الجنوب اليوم؟ أليست النساء منهم قبل الرجال، والشيبة قبل الشباب؟ 
 
ثالثًا: تناول الراعي موضوع الحياد، ويقصد الحياد حيال الصراع مع "إسرائيل"، فقال إن الحياد من صميم تكوين لبنان، وهو يحمي لبنان. ثمّ كرّر الدعوة لإصدار قرار من الأمم المتحدة بحياد لبنان! فإذا كان الحياد سياسة لبنانية أصيلة مسلَّمًا بها، كما يقول، فما الحاجة إلى استصدار قرار دولي بهذا الشأن؟ وقد اعترف البطريرك نفسه في رؤية الحياد التي عرضها في آب / أغسطس 2020 بأن "حياد لبنان، كنظامٍ دستوريٍّ، لم يكن حاضرًا في ذِهنِ مؤسِّسي دولة لبنان الكبير"، وإن اعتبر أنه "كان حاضرًا كسياسةٍ دفاعيّةٍ وخارجيَّة" في ذلك الحين، وهذه وجهة نظر تنقضها ممارسات القوى اللبنانية التي توزعت أحلافًا في كلّ استحقاق منذ ذلك الحين (ماذا مثلًا عن انغماس الرئيس كميل شمعون في حلف بغداد الذي قادته واشنطن في خمسينيات القرن الماضي؟ أليس هذا خروجًا على حياد لبنان؟). 

إضافة إلى ذلك، كان الحياد الذي راج في المرحلة الأولى من استقلال لبنان مبنيًّا على "أنَّ لبنان يَلتزِم الحياد بين الشَّرق والغرب"، أي بين المعسكر السوفياتي الاشتراكي والمعسكر الأميركي الرأسمالي. وهذا ما أثبتته رؤية الحياد التي أعلنها الراعي نقلًا عن حكومة الاستقلال. وبالتالي، فالحياد لا يتعلق بالصراع العربي - "الإسرائيلي"، وإن حاول البطريرك تأويل الأمر بالقول في رؤيته الاستنسابية إن "قرارات الجامعة العربية غير مُلزِمةٍ" بشأن هذا الصراع، وإن "لبنان دولة مساندة، وليس دولة مواجهة" مع "إسرائيل". 

رابعًا: يدّعي البطريرك وجود إجماع على حصر السلاح بيد الدولة. وهذا الإجماع هو إجماع على المبدأ في حال توفُّر أدوات الحماية والدفاع لدى الدولة، والحال ليس كذلك اليوم. والقرار الذي اتُّخذ في مجلس الوزراء لا يعكس روح التوافق فضلًا عن الإجماع، بل تم اتّخاذه تحت وطأة تدخلات خارجية يعرفها البطريرك جيدًا. والواقع أن القرار ولّد انقسامًا سياسيًا خطيرًا في البلد لا يجوز تجاهله أو التهوين منه أو إخراج من يعارضه من دائرة الانتماء الوطني بأي حال من الأحوال، ما دام الفريق المقابل لا يرضى لنفسه أن يُتهم هو الآخر في وطنيته. 

خامسًا: هاجم البطريرك الراعي الجمهورية الإسلامية في إيران لِما قال إنه "تدخل إيراني سافر في الشؤون اللبنانية". وقد أعلنت إيران أنها لا تتدخل في شؤون لبنان لكنّها تبدي موقفًا من التدخلات الأميركية في لبنان. فلماذا يحق لأميركا أن تملي على لبنان ورقة شروط تتعلق بسيادته، ولا يحق لإيران أو لأي دولة أخرى أن تبدي رأيًا في هذه الورقة دعمًا للبنان ومقاومته؟ ألا يُعدّ الموقف الحادّ للبطريرك هنا اصطفافًا مع جهات إقليمية ودولية في وجه أخرى؟ ثمّ بعد ذلك يقول إنه لا يستطيع تلبية دعوة إيرانية لزيارة طهران حتّى تغيّر إيران سياستها. هل انطبق هذا الشرط على "إسرائيل" المعتدية المحتلة التي زارها عام 2014، خارقًا بذلك القوانين اللبنانية النافذة، وضمّنها حينذاك مواقف عالية السقف داعمة لعملاء الاحتلال؟ 

سادسًا: أكد البطريرك أن "لا مانع من السلام مع "إسرائيل" مستقبلًا عندما تكون الظروف مناسبة". وفي هذا الموقف تحديدًا، يخرج عن طبيعة الحياد التي يدعو إليها، خاصة أن لبنان لا يعترف بـ"إسرائيل" حتّى الآن ولا يزال في حالة حرب معها. وثمة سؤال: عندما يتحدث عن "عدم ممانعة" حيال السلام مع العدو، هل يعتبر نفسه في موقع قرار في الدولة يسمح له بعدم الممانعة، أم أنه يدفع للتوجه نحو هذا الخيار؟ وما هي "الظروف المناسبة" في تقديره؟ ولماذا لا يترك "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" إذا كان يؤيد حصر قرار الحرب والسلم بيد الدولة؟ أم أنّ تجاوز هذا الحصر مسموح لطرف وممنوع على طرف آخر؟ 

تُحِيلنا جميع هذه الملاحظات مجددًا إلى حقيقة أن البطريرك الماروني يطبّق مقولة الحياد استنسابيًا، ويتموضع فعليًا في قلب الصراع في لبنان والمنطقة، مثله مثل كلّ الزعماء السياسيين. وبالتالي، يصعب عليه أن يقنع الآخرين برؤيته إذا كان هو غير قادر على الالتزام بها.

الكلمات المفتاحية
مشاركة