مقالات

منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى حتّى اللحظة يسود الانقسام بين اتّجاهين:
- اتّجاه يعتبر العملية مغامرة بكلّ ما تمثله الكلمة من معنى ربطًا بحسابات تتعلق بميزان القوى وعدم التماثل في الإمكانيات ومكامن القوّة.
- اتّجاه آخر يعتبر العملية معركة حق وباطل لا بدّ من خوضها بعد أن ضاقت بالفلسطينيين كلّ السبل وأتعبهم الحصار الجائر على مدى 17 عامًا.
الاتّجاه الأول يضع المسألة في باب المقارنة بين فريق يمتلك أحدث أدوات الحرب ويتسلّح بتاريخ طويل من التوحُّش لا مثيل له في العصر الحديث وبين فريق لا يمتلك من أدوات الحرب إلاّ القليل القليل.
هذا الفريق الذي يتبنى الاتّجاه الأول لا يملك الحجّة التاريخية ولا أدنى مفاهيم الحرب اللامتماثلة ولا حتّى الخلفية الفلسفية التي انطلقت منها حركات التحرر سواء العلمانية أو الدينية الإسلامية. ولنا في الجزائر وفييتنام والعراق وأفغانستان وغزّة من 2005 حتّى اللحظة ولبنان من تحرير سنة 2000 حتّى اللحظة أمثلة واضحة كيف استطاعت حركات التحرر أن تكون ندًّا وتقارع المحتل وتنتصر عليه، والأمثلة الدامغة باتت من دروس المقاومة الشعبية كفييتنام والجزائر وأنتجت دولًا بمعزل عن موقف هذا أو ذاك من نظام الحكم فيها بعد التحرّر.
هذا الاتّجاه يتذرّع بحجم الكلفة البشرية التي يمكن أن يتكبدّها المقاوم ويصنِّفها على أنها شكلٌ من اشكال الانتحار وأنّ من يُقدم على اتّخاذ قرار المقاومة بوجه المحتل هو مغامر يُلقي بنفسه ومن يُدافع عنهم في التهلكة.
إن توصيف الأمر بالانتحار وإلقاء النفس في التهلكة لا يقتصر على أصحاب الأقلام الصفراء ممّن باعوا أنفسهم لداعمي المحتل وضمنًا للمحتل كونهم يستخدمون مصطلحات وذرائع العدوّ نفسه بل يشمل فئة ممّن يفسرون النصوص الدينية بغير مواضعها وبشكل صنمي دون الأخذ بالأسباب الموجبة.
وفي الحالتين سواء كان المقاوم علمانيًا أو متدينًا تنطلق المقاومة بدوافع دينية وهي موجبة بالنصوص البيّنة التي لا تحتمل اللبس والتأويل أو بدوافع وطنية وأخلاقية وإنسانية والهدف هو التحرّر ممّا يجيزه القانون الدولي الإنساني كحق مشروع من حقوق مقاومة الاحتلال والنصوص في هذا الأمر واضحة وضوح الشمس.
الاتّجاه الثاني هو المنتصر حتمًا لكن بكلفة عالية تطال المقاومين أنفسهم وكلّ من حولهم ومعهم من شعبهم حيث يتجرّد العدوّ من الأخلاق ويضرب عرض الحائط بكلّ المبادئ الإنسانية وبالقانون الدولي الإنساني وبقوانين الحرب التي تمنع استهداف المدنيين والبنى التحتية ما لم تكن البنى التحتية جزءًا من أدوات الحرب ولا الناس الذين لا يشاركون في الحرب بشكل مباشر.
امام هذا العرض الموجز تُصبح معركة طوفان الأقصى جزءًا من المواجهة المستمرة منذ "وعد بلفور" المشؤوم الذي اعطى من لا يملك ما لا يستحق وهو المسار المستمر من " بلفور " إلى " أبراهام ".
وعندما نقول إنها معركة من ضمن مواجهة مستمرة وهي معركة حق بمواجهة الباطل يُصبح الأمر مرتبطًا بتقييم مسار المعركة من بداياتها حتّى نهايتها مع التأكيد أن الحرب تُحسم بنتائجها وليس بكلفتها حتّى لو خسرت المقاومة معركة، فطالما أن الموجبات قائمة والأسباب مستمرة تصبح النتيجة النهائية مرتبطة بالمسار وليس بالمكان والزمان اللحظيين وهو ما يفهمه أهل المقاومة وشعبهم ويشكّل بالنسبة لهم الدافع للاستمرار بغضّ النظر عن النتيجة اللحظية.
مسألة أخرى مهمّة أنّ اغتيال القادة في فلسطين ولبنان لم يشكّل مادّة إحباط وتراجع بل كان وسيستمر بمثابة الحافز والأمثولة ويرسم خارطة المستقبل، فأجدادنا قاتلوا منذ مئة عام وقاتل بعدهم آباؤنا وقاتل جيلنا وأبناؤنا وسيقاتل احفادنا من ضمن خارطة المستقبل المليئة بالخبرات والدروس والعبر من كلّ محطة سواء كانت نتائجها سلبية أو إيجابية.
في البعد العسكري:
لا يختلف الصديق والعدو في دوائر التحليل العسكري والإستراتيجي على انّ معركة طوفان الأقصى كانت بمثابة المفاجأة الإستراتيجية الثانية بعد مفاجأة حرب 1973 بفارق ان إمكانيات سورية ومصر حينها كانت أكبر بمئات وربما الآف المرات من إمكانيات المقاومة في غزّة وهذا ما يُكسبها مصطلح المفاجأة الاستراتيجة الأعظم في تاريخ الصراع مع العدّو الصهيوني.
المعركة فضحت الجيش الذي لا يُقهر حيث استطاع حوالي الف مقاتل أن يُلحقوا الهزيمة بفرقة غزّة وضربت بشكل غير مسبوق التفوق الاستخباراتي والتقني لجيش العدوّ باعتماد تكتيكات وأساليب حرب جديدة قائمة على إحداث الصدمة المستمرّة في جيش العدوّ وقطعان المستوطنين لدرجة ان نتنياهو صنّف المواجهة بحرب الوجود.
إضافة إلى المفاجأة العسكرية والاستخباراتية إن الصدمة تلقاها بشكل أساسي جهازا "الموساد" و"الشاباك" حيث استطاعت حركة حماس أن تُوهم كامل المنظومة العسكرية والاستخباراتية بأنها باتت خارج المواجهة وانها تركّز اهتمامها على مسائل التنمية والحكم وما قيل الكثير عنه قبل المعركة وتمّ سرده في بعض الأحيان ان حماس باعت وغيرها من المصطلحات والاتهامات.
طوفان الأقصى لا يزال كمعركة يؤدي مفاعيله فقد نقل التحدّي لدى العدوّ من مرحلة التحدّي الإستراتيجي إلى مرحلة التحدّي العملياتي والتكتيكي بسبب اتّخاذ القرار بخوض المعركة واجتياح غزّة واحتلالها.
مع بدء الغزو البري للقطاع كتبت يومها ان جيش العدوّ سيعلق في وحل غزّة لأسباب عسكرية بحتة واستشهدت بحديث للجنرال الأميركي ديفيد بترايوس خبير حرب المدن والشوارع في الجيش الأميركي الذي اكّد ان الجيش "الإسرائيلي" لن يكون بمقدوره احتلال غزّة بشكل دائم حتّى لو دمّرها كلّها.
في هذا النوع من الحروب سيحتاج الجيش "الإسرائيلي" إلى جندي في كلّ متر مربّع وسيحتاج إلى اجراء الاستعلام التكتيكي في كلّ لحظة ويجب عليه أن يفتش كلّ منزل وكلّ غرفة في كلّ منزل وإن الركام سيعمل ضدّه كلما تراكم أكثر وسيضطر يومًا بعد يوم لأن يواجه عمليات لصيقة عبر الكمائن والعبوات وسيكتشف انه رغم كلّ عمليات البحث لن يحقق أي هدف كبير سوى القتل والتدمير.
ختامًا: مهما كانت نتيجة المفاوضات التي تجري في مصر ستبقى معركة طوفان الأقصى من أكبر المعارك التي تُخاض من ضمن مسار المواجهة المستمرة.