اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي وقفة تضامنية في صيدا تنديدًا باستهداف الإعلاميين الفلسطينيين واللبنانيين

مقالات

الخيار الكربلائي في مواجهة مشروع
مقالات

الخيار الكربلائي في مواجهة مشروع "إسرائيل الكبرى"

77

حين أعلن الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، في خطابه الأخير رفض تسليم السلاح، وربط هذا الموقف بالخيار الكربلائي، لم يكن بصدد إطلاق شعار تعبوي أو خطاب وجداني عابر، بل كان يعيد رسم موقع المقاومة في معادلة الصراع الكبرى، ويؤكد أن السلاح بالنسبة إليها ليس بندًا تفاوضيًا، ولا تفصيلًا يمكن أن يخضع لمساومات سياسية أو لتفاهمات دولية، وإنما هو جوهر وجودها وضمانة لبنان في مواجهة مشروع متجذّر في بنية الكيان "الإسرائيلي". ولا يُفهم من اختيار عبارة “الخيار الكربلائي”، الاستشهاد الجماعي، بالضرورة، بل خيار الاستعداد للتضحية الكبرى في مواجهة تهديد وجودي إلى الحد الذي لا يترك مساحة رمادية.

هذا الموقف لا يمكن فصله عن حقيقة أن "إسرائيل"، منذ إعلان قيامها عام 1948، لم تحدّد حدودها النهائية، بل أبقت على غموض مقصود تحوّل إلى إستراتيجية توسعية ثابتة. كلّ مرحلة من مراحل التاريخ "الإسرائيلي" كشفت أن الدولة تتحرك بمنطق “المرحلية”: لحظة قوة تُستغل، واقع جديد يُفرض، ثمّ يعمل الزمن على تثبيته وتحويله إلى قاعدة للمرحلة التالية. من هنا، فإن خطاب الشيخ قاسم يواجه حقيقة بنيوية لا خطابًا ظرفيًا. ولذلك فإن إعلان نتنياهو الأخير عن “إسرائيل الكبرى” لا يشكّل مفاجأة للمقاومة ولا يغيّر جوهر قراءتها للصراع؛ بل يؤكد ما كانت تبني عليه سياساتها منذ عقود: أن المشروع "الإسرائيلي" قائم سواء جاهر به قادته علنًا أو ظلّ جزءًا من الحسابات الخفية.

نتنياهو حين أعلن بلا حرج أن “إسرائيل الكبرى” هي مشروعه، لم يكن يضيف جديدًا إلى المضمون بل إلى الأسلوب. فالفكرة راسخة منذ التأسيس، أما الجهر بها اليوم فيكشف مقدار الاطمئنان الذي وصل إليه في قراءته لموازين القوى. إنها جرأة محسوبة أكثر منها مغامرة، تقوم على يقين أن البيئة الدولية والإقليمية لن تنتج ردًا عمليًّا يوازي حجم الإعلان. في المقابل، موقف قاسم جاء ليقول إن هذا الاطمئنان "الإسرائيلي" لا يعكس الحقيقة على الأرض، وإن السلاح الذي تطالب "إسرائيل" بنزعه هو وحده ما يحول دون استكمال مشروعها في فلسطين ولبنان وسورية.

المقارنة بين الخطابين هنا بالغة الدلالة. نتنياهو يرفع سقف الطموح "الإسرائيلي" إلى حد الإعلان عن مشروع بلا حدود، بينما قاسم يرفع سقف الموقف إلى حد الاستعداد للذهاب إلى النهايات... مع منطلقات عقائدية في الموقف من مواجهة التهديد الوجودي.

الأول يستند إلى ميزان قوى دولي يرى فيه حماية تكفي لتجاوز كلّ الاعتراضات، والثاني يستند إلى قراءة إستراتيجية تاريخية تعتبر أن أي تخلٍّ عن القوّة هو انتحار وطني.

الأول يوجّه رسالته إلى الداخل "الإسرائيلي" ليؤكد أنه زعيم المرحلة الذي يواصل خط التوسع، ويبعث برسالة إلى الخارج تقول إن "إسرائيل" قادرة على أن تعلن مشروعها من دون خشية.

الثاني يوجّه رسالته إلى الداخل اللبناني ليحصّن بيئة المقاومة أمام الضغوط، ويبعث برسالة إلى الخارج أن نزع السلاح لن يتحقق لا بالترهيب ولا بالتسويات، والى شعوب المنطقة أنه حتّى في ظل أقسى الظروف يمكن مواجهة المخاطر وأنه بالمقاومة والمقاومة فقط يمكن مواجهة الخطر الصهيوني.

هنا تتجسد المفارقة العميقة: "إسرائيل" تعلن أن مشروعها يتجاوز كلّ الحدود، وحزب الله يعلن أن مقاومته تتجاوز كلّ أشكال الضغط. ما بين هذين الخطابين ينكشف جوهر المرحلة الراهنة: "إسرائيل" تختبر قدرتها على تحويل التوسع المرحلي إلى أمر طبيعي معلن، والمقاومة تختبر قدرتها على جعل السلاح خطًا فاصلًا لا يمكن تجاوزه. "إسرائيل" تقول: كلّ متغيّر فرصة للتوسع، والمقاومة تقول: كلّ محاولة لانتزاع السلاح ستُواجَه بخيار وجودي.

لكن في الوقت نفسه، يجب أن نتوقف عند البنية الداخلية لكل من الخطابين. نتنياهو لا يتكلم من فراغ بل من داخل منظومة ترى أن الأمن هو البوابة، والسياسة أداة تقنين، والزمن أداة تثبيت. هكذا فُرضت وقائع 1948 و1967 و1982 (حاولوا وفشلوا ويكرّرون المحاولة الان)، وهكذا يُدار الاستيطان في الضفّة ويجري تحويل غزّة إلى ساحة إدارة دائمة، ومحاولة خفض الردع على الجبهة الشمالية. أما حزب الله، فهو يتكلم من موقع يعتبر أن أي تخلٍّ عن السلاح يعني إلغاء عنصر الردع الذي أوقف التوسع عند حدوده منذ 2000 و2006، وأن استمرارية "إسرائيل" الكبرى مشروطة دائمًا بغياب قوة موازية تفرض عليها الكلفة.

وإذا كان نتنياهو قد أطلق خطابه في لحظة يرى أنها مؤاتية، فإن خطاب قاسم كان إعلانًا أن هذه اللحظة نفسها لن تُستثمر إسرائيليًا بلا ثمن. فالمقاومة تتعامل مع المشروع "الإسرائيلي" كخطر بنيوي مستمر، لا كظاهرة ظرفية. وبالتالي لا عبرة لأي موقف كان قبل الثاني، لأن حزب الله، بخطابه السابق واللاحق، يتعامل مع "إسرائيل" الكبرى بوصفها خطرًا ثابتًا لا يتوقف على اللغة بل على بنية الكيان نفسه.

الخلاصة أن المشهد الراهن يُقرأ على أنه مواجهة بين مشروع توسعي معلن بلا حدود وخيار دفاعي وجودي بلا مساومة. "إسرائيل" تختبر حدود قوتها عبر الجهر بما تحرص على عدم تبنيه رسميًا، على الأقل، وحزب الله يواجه التحديات بصلابة عبر تحويل السلاح إلى قضية لا تحتمل النقاش. هذا هو جوهر المرحلة: إعلانان متناقضان يكشفان بوضوح أن الصراع لم يعد يحتمل الوسط، وأن التوازن لن يصنعه الكلام بل معادلات القوّة التي تحوّل كلّ تصريح إلى حساب في دفتر الربح والخسارة.

الكلمات المفتاحية
مشاركة