مقالات
كاتب من مصر
إيهاب شوقي
بعد إلغاء الكونغرس الأميركي بمجلسيه للعقوبات المفروضة على سورية ومن أهمها القانون المشبوه والقاسي والمعروف بقانون "قيصر"، تثار عدة تساؤلات حول المتغيرات الجيوسياسة التي أدت إلى هذه الحميمية في العلاقات الأميركية السورية بإجماع كامل يتمثل في توحد رؤية مجلسَي النواب والشيوخ والحزبين الحاكمين الرئيسين، وهو ما يعني باختصار تلاقي رفع هذه العقوبات مع الأمن القومي الأميركي، تمامًا مثل ما كان يعني فرضها على النظام السابق تلاقيًا مع هذا الأمن القومي.
ومن المهم ذكره، أن رفع العقوبات جاء في سياق إقرار قانون الموازنة الدفاعية، والتي شملت ملفات على صلة مباشرة بالصراع الدولي والإقليمي، بل وتضمنت بندًا خاصًّا بلبنان يقول: إن الكونغرس أقر بندًا يربط دعم أميركا للجيش اللبناني بجهوده لنزع سلاح حزب الله تحت طائلة تعليق المساعدات، ويُلزم وزير الدفاع بتقديم تقرير للكونغرس نهاية يونيو (حزيران) يقيِّم "التقدم الذي أحرزته القوات المسلحة اللبنانية في نزع سلاح الحزب، وخيارات لوقف المساعدات، في حال تبين عدم استعدادها لنزعه".
وقانون "قيصر" الذي يتخّذ اسمًا رمزيًّا يعني السلطة العليا، وهو ما تتبعه أميركا اقتداء بالإمبراطورية الرومانية، يشير إلى أحد المنشقين المزعوم أنه سرب صورًا ووثائق للتعذيب وبموجبها تم فرض هذا القانون في العام 2019 ودخل حيز التنفيذ في السنة المالية للعام2020 كجزء من إقرار الدفاع الوطني، تسبب في شلل الاقتصاد السوري ومعاناة الشعب منذ إقراره، حيث أصبح سيفًا على رقبة كلّ المتعاونين مع سورية في شتّى المجالات وعلى رأسها قطاع الطاقة وإعادة الإعمار؛ أي أنه أقر ليجعل سورية جحيمًا وخرابًا وفي عزلة تامة لإسقاط النظام.
وبالتالي، فإن رفعه حاليًّا، يعني دعمًا للنظام الجديد وإعادة دمجه دوليًّا وتمكينه من الحكم، وهو أمر، وإن كان مفرحًا لرفعه المعاناة عن الشعب السوري، إلا أنه مقلق ومريب؛ لأن أميركا لا تعير الشعوب اهتمامًا، وهي المتسبب الأصلي في هذه المعاناة، وهي لا تقدم هدايا مجانية، بل تتحرك وفقًا لمصالحها التي تتقاطع دومًا مع مصالح ربيبها الصهيوني وتتناقض دومًا مع مصالح الشعوب.
وهنا ينبغي رصد بعض الملاحظات الشكلية والموضوعية وربطها بالسياق الدولي والإقليمي لبلورة ملامح النوايا والسياسات الأميركية من وراء هذه الخطوات:
أولًا: في شكل وموضوع رفع العقوبات:
شكليًّا: قدمت صياغة رفع العقوبات بأنها مشروطة بالمراقبة ورفع تقارير دورية، وبحسب النص الذي تم إقراره، وإرساله إلى البيت الأبيض ليحظى بتوقيع الرئيس ترامب ويصبح ساري المفعول، يتم رفع "عقوبات قيصر" نهائيًا مع شروط غير ملزمة، ويتضمن تقريرًا تقدمه الإدارة إلى الكونغرس في مدة لا تتجاوز الـ90 يومًا من تاريخ إقراره، وكلّ 180 يومًا بعد ذلك على فترة 4 أعوام.
وموضوعيًّا: تفصل هذه التقارير عدة أشياء، أهمها ما إذا كانت الحكومة السورية تتّخذ إجراءات ملموسة وفعَّالة للقضاء على التهديد الذي يشكِّله تنظيم ("داعش") والجماعات الإرهابية الأخرى، بما في ذلك (القاعدة) وفروعها بالتعاون مع الولايات المتحدة، وأنها لا تقوم بعمل عسكري أحادي الجانب وغير مبرر ضدّ جيرانها، بما في ذلك "إسرائيل"، وتواصل إحراز تقدم نحو اتفاقيات أمنية دولية، بالإضافة إلى اتّخاذها لخطوات فعّالة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل، وفقًا للمعايير الدولية، وألا تقوم بتمويل أو مساعدة أو إيواء أفراد أو جماعات خاضعة للعقوبات، وتُشكّل خطرًا على الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في المنطقة.
وهذا يعني مباشرة وضع سورية تحت وصاية أميركية وأن يكون رفع العقوبات مشروطًا بتعاون إستراتيجي لتحقيق المصالح الأميركية وتوفير أمن الكيان الصهيوني وملاحقة أعداء أميركا وعلى رأسهم قوى المقاومة.
ثانيًا: في سياق التحركات الأميركية الأخيرة:
لم يحدث إلغاء العقوبات بشكل فجائي بل شهد مسارًا متدرجًا وبدا مشروطًا وبدت به أطراف متداخلة، حيث بدأ بترحيب رسمي بسقوط النظام السابق وبانفتاح سعودي لافت على النظام الجديد ووساطة سعودية بين الجولاني وترامب حدث على إثرها أول الوعود برفع العقوبات، ثمّ زيارات لمبعوثين أميركيين ومؤخرًا زيارة الجولاني للبيت الأبيض، وما تخللها من عقد اتفاقات أمنية مبهمة لم تنشر تفاصيلها بشكل واضح، غير أن التسريبات تفيد بإعادة انتشار عسكري أميركي، بما يشمل التموضع في البادية وحول المناطق التي يخطط أن تكون منزوعة السلاح على الحدود مع فلسطين المحتلة لضمان أمن الكيان الصهيوني، وتم الحديث عن تموضع في دمشق وربما قاعدة جوية في أحد المطارات.
ويرتبط هذا الانفتاح الأميركي بتصريحات توماس براك؛ المبعوث الأميركي لسورية ولبنان الذي يهدّد دائمًا بضم لبنان إلى سورية وعودة "بلاد الشام"، واتّخاذه لسياسة سورية الجديدة مثلًا دائمًا للجزرة الأميركية وأن الرضا الأميركي يشترط هذا المسلك السوري الجديد.
ثالثًا: توظيف سورية في المشروع الأميركي للمنطقة:
ومن خلال التحليل الشكلي والموضوعي والربط مع سياق بنود الموازنة الأميركية ومراقبة التحركات الأخيرة في ملفات غزّة ولبنان، فإن هناك توجهًا أميركيًا واضح لتوظيف سورية ودمجها في منظومة المصالح الأميركية بالمنطقة، حيث فتحت الأبواب للشركات الأميركية الاستثمارية للدخول إلى سورية، وكذلك الاستثمارات الخليجية المشروطة دومًا بمصالح الخليج، وكذلك إدارة ملف الطاقة بما يخدم شبكة المصالح الأميركية ومشروعاتها الجيوستراتيجية، وملاحقة خصوم أميركا بداية من الصين وروسيا وصولًا لإيران وقوى المقاومة.
والخلاصة، أن أميركا التي تروج لنفسها صفة الإمبراطورية "القيصرية" تقدم سورية كنموذج للعصا والجزرة، حيث تريد تحويلها إلى مثال في حالتي الغضب والرضا، وأنها تستطيع إسقاط الأنظمة وحصارها إذا ما تناقضت مع المصلحة الأميركية، وبالمقابل تستطيع تعويمها ودمجها دوليًّا إذا ما تماهت مع أميركا وخضعت لشروطها وخدمت مصالحها، وهو مثال توجهه لأنظمة المنطقة، وتحديدًا إلى لبنان؛ بغية تسريع فتنة نزع السلاح ومحاولة إدخال لبنان إلى منظومة التبعية بشكل كامل يخلو من المقاومة وفي خدمة أكبر مشروع أميركي بالمنطقة وهو "إسرائيل الكبرى"، وهو ما لم ولن تسمح به القوى الحية والمقاومة.