مقالات
كاتب من مصر
ربما شكلت حادثة بلدة يانوح الجنوبية مؤشرًا لما يتم التمهيد له من تحويل آلية مراقبة وقف إطلاق النار "الميكانيزم" إلى مجلس وصاية سياسي وعسكري في انحراف صريح عن دوره العسكري المفترض أنه محايد، وربما فتح إدخال مدنيين إلى "الميكانيزم" شهية الصهاينة والأميركيين إلى هذا التحول والتغول في المشهد السياسي، لا سيما وأن هناك توصيات صريحة من مراكز الفكر الأميركية الكبرى بتحويله إلى عصا تهدّد الدولة اللبنانية إلى جانب جزرة الوعود الاقتصادية الفضفاضة.
ورغم أن "الميكانيزم" لم يؤد دوره في منع الانتهاكات الصهيونية اليومية وبات أداة من أدوات أميركا و"إسرائيل" للضغط على الدولة اللبنانية في فتنة نزع سلاح المقاومة، ما يستدعي مراجعة ووقفة جادة لإعادة ضبط الأمور، إلا أننا نجد على العكس مطالبات بتوسيع دوره في اتّجاه واحد، وهو اتّجاه تحقيق أهداف أميركا و"إسرائيل" وتجريد لبنان من أوراق القوّة وتحقيق المكاسب التي عجز العدوّ عن انتزاعها بالحرب تحت غطاء السلام والاستقرار والتفاوض.
وقبل رصد أحدث المخطّطات التي يراد من هذه اللجنة تنفيذها، يجب الاطلاع على توصيات "معهد واشنطن" بشأن هذه اللجنة، حيث أثبتت الحوادث المتكرّرة أن توصيات المعهد وغيره من كبرى مراكز الفكر الأميركية تدخل بالفعل حيز التنفيذ ويرى لها انعكاسات حقيقية على أرض الواقع، وهو ما يعني أن العدوّ يلعب معركة مكشوفة، وهو أمر غير مستغرب بلحاظ التصريحات الصهيونية الرسمية بإقامة "إسرائيل الكبرى"، وهو ما يجعل "أنصار السلام" والتفاوض في لبنان والخضوع لإملاءات العدوّ في موقف المخادع للنفس والمتواطئ مع العدو.
أحدث تقارير "معهد واشنطن" حول الآلية الفرنسية الأميركية في لبنان وفتنة نزع السلاح، تتضمن توصيات صريحة كان أهمها وأخطرها هو توسيع نطاق الآلية لمراقبة خطة نزع السلاح، وهو تحول من الدور العسكري في مراقبة الانتهاكات (من الجانبين) إلى الدور المعادي والمنتهك للسيادة اللبنانية.
ويجدر هنا أن نذكر مقطعًا من التقرير نصًا، لنرى كيفية تطابقه مع الواقع وخاصة الحدث الأخير في بلدة يانوح، حيث تقول التوصيات: "حاليًا، تعتبر الولايات المتحدة الجهة الوحيدة التي تثق بها "إسرائيل" في هذه العملية. لذلك، ينبغي على الأطراف النظر في توسيع مسؤوليات الآلية الحالية التي تقودها الولايات المتحدة من خلال إضفاء الطابع الرسمي على عملية التحقق المعتمدة لمهمة نزع السلاح التي تقوم بها القوات المسلحة اللبنانية، وبالتالي اختبار فرضية أن القوّة تنفذ فعلًا ما تقول إنها تنفذه للتعامل مع مواقع حزب الله في الجنوب. ومن المرجح أن يعتمد هذا التوسيع على استعداد القوات المسلحة اللبنانية لتفتيش "الممتلكات الخاصة "".
كما أن هناك بعدًا أكثر خطورة يتعلق بتدخل إقليمي في هذه الفتنة، وهو أمر على صلة بالمؤتمر الدولي لدعم الجيش اللبناني، والذي من المتوقع الآن عقده في أوائل عام 2026، حيث قالت التوصيات إن الأمر سيتطلب بذل جهود لتلبية متطلبات المملكة العربية السعودية المعلنة بشأن إحراز تقدم ملموس في نزع سلاح "حزب الله".
كما تناول التقرير اجتماع باريس المزمع عقده بعد أيام والذي يجمع ممثلين عن السعودية والولايات المتحدة وفرنسا، والمراد منه الضغط على الجيش والتشديد بشكل صارم على خطة نزع السلاح ليسهم ذلك في إقناع الرياض بأن الوقت مناسب للمساعدة في تعزيز الجيش اللبناني.
واجتماع باريس له أبعاد أخرى تحدثت عنها التقارير بشكل يفيد بأن "الميكانيزم" سيتحول لآلية ضغط اقتصادي وسياسي وتغوّل في المسار الديمقراطي والانتخابات، وهو ما أفادت به تقارير صحافية، حينما نقلت عن معلومات أن هناك خطة لتوسيع لجنة "الميكانيزم" بضم طرف عربي إليها، في مقابل مواكبة الجانب المصري لها، من خلال وزير الخارجية بدر عبد العاطي ورئيس المخابرات العامة المركزية اللواء حسن رشاد، ما يجعل "الميكانيزم" لجنة بديلة لـ"الخماسية" التي تولت الإشراف والمواكبة في فترة الفراغ الرئاسي بين 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022 و9 كانون الثاني/ يناير 2025.
والخلاصة هنا أننا أمام خطة متكاملة الأركان تبدأ بالتهويل والتخويف من حرب وشيكة مدمرة لكامل لبنان بهدف الانصياع لشروط العدوّ ومنطق التفاوض وما يترتب عليه من تسلل المدنيين إلى اللجان العسكرية، وتحويل "الميكانيزم" من لجنة عسكرية إلى لجنة وصاية شاملة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، وهو وضع موطئ قدم أميركي رسمي على غرار مجلس "السلام" في غزّة، وشرعنة تدخل "الميكانيزم" في عمل الجيش وتوجيه الأوامر له ودفعه نحو الفتنة مع المقاومة والشعب اللبناني، وذلك بدعم عربي سعودي يقدم الجزرة إلى جانب العصا الصهيونية، وهو أمر مرفوض ولن يقبل به أحد، حيث ارتضى الجميع بوجود هذه الآلية كمراقب ينحصر دوره في الجانب العسكري لمراقبة وقف إطلاق النار فقط، ولم يحصل على إجماع في تخطي دوره سواء من حيث التشكيل والهيكلة العسكرية حصرًا، أو من حيث المهام المحايدة والمقتصرة على جبهات القتال.