مقالات

استبدلت حكومة نواف سلام الوصاية السورية، التي ادّعت جوقة السيادة والاستقلال معارضتها، بالولاية الأميركية المباشرة من خلال التصديق على ورقة توم برّاك من دون زيادة أو نقصان أو تعديل، لا بل نوّه رئيس حكومة الانتداب بها وأعلنها دستورًا جديدًا، مخالفًا البيان الوزاري الذي نال على أساسه الثقة في مجلس النواب، وضاربًا بوثيقة الوفاق الوطني (الطائف) عرض الحائط ليأخذ البلاد إلى منزلق خطير يهدّد الاستقرار والأمن ويضع الدولة والشعب والمؤسسات في مهب الريح. وما يزيد الأمر حساسية إقحام الجيش اللبناني في خضم الأزمة دون الأخذ بالحسبان ما قد يترتّب على هذه الخطوة من مخاطر تهدّد الكيان اللبناني وتماسكه وتعيده إلى أجواء الاحتراب الداخلي وصولًا إلى إسقاطه كدولة وإعادته تحت وصاية الانتداب.
ارتكز سلام إلى مجموعة من المعطيات ليسوّغ اندفاعه المتهوّر في تبنّي الورقة الأميركية الرامية إلى جعل لبنان مكشوفًا أمام الهيمنة "الإسرائيلية" بنزع سلاح المقاومة، وأهمها:
- الإيجابية عالية المستوى التي أبداها الثنائي الوطني في تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية وتسميته (أي سلام) لتشكيل الحكومة مقابل عهود ووعود بالتوافق الداخلي يسبق أي قرار حساس تتّخذه الحكومة.
- دعم الثنائي الوطني جهود العهد لإعادة بناء الوطن والمشاركة في الحكومة ارتباطًا ببيان رئاسي وآخر وزاري يتعهّدان بتحرير الأرض واستعادة الأسرى وإعادة إعمار ما هدّمه العدوان الصهيوني وضمان حماية الناس من الاعتداءات "الإسرائيلية" ببسط سلطة الجيش على كافة الأراضي اللبنانية.
- تبنّي الإيعاز الأميركي بالتعامل مع المقاومة على أنها طرف مهزوم في الحرب "الإسرائيلية" - اللبنانية، ولا سيّما بعد انهيار النظام السوري السابق، واعتماد هذا الفهم قاعدةً لبناء خطوات نزع سلاحها وإلا فإن لبنان سيواجه العزلة والحصار من جهة واستمرار الاعتداءات "الإسرائيلية" من جهة ثانية.
- الركون إلى "تطمينات" أميركية - عربية بأن القرارات غير الميثاقية التي اتّخذها وسيتخّذها لن تؤدي إلى اضطراب الوضع الأمني أو الانزلاق باتّجاه صدام داخلي يأخذ شكل الحرب الأهلية.
- ارتكاز سلام إلى إحساس موهوم بفائض قوة منحه إياه حضور أميركي وغربي سياسي وأمني في بيروت ودعم عربي ظاهر في السياسة والإعلام وتنسيق مستمر في الكواليس وداخل الغرف المغلقة.
- تأثره بالأجواء الإعلامية والدعائية والمواقف الداخلية والخارجية التي أثنت على شخصه وقراراته، حتّى ظنّ أنه رجل المرحلة ولن يواجه الفشل الذي منيت به المشاريع المماثلة السابقة منذ ما قبل الطائف وبعده.
- تمهيد الأرضية أمام إدخال لبنان في بوتقة التطبيع أسوةً بالقطار العربي الرسمي المنبطح أمام التغوّل الأميركي - "الإسرائيلي"، وتحويل البلد إلى ساحة غير معادية ومنزوعة السلاح بما يطمئن "إسرائيل"، واعتقاده بأن نجاحه في تحقيق هذا الهدف سيكرّس موقعه في التركيبة الجديدة للنظام اللبناني.
ما سبق، فضلًا عن الاتّجاهات السياسية التسووية التي يؤمن بها سلام -على غرار نموذج رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والملك الأردني عبد الله- دفعه إلى التعنّت والتفرّد بقرارات مظلّلة بغطاء حكومي، أقلّ ما يقال فيها إنها ضرب للدستور اللبناني بنصوصه وروحه وانقلاب على اتفاق الطائف الذي وضع حدًا للحرب الأهلية بعد 18 عامًا من الاقتتال المذهبي في لبنان، وتشريع لإسقاط النظام والحياة الدستورية والوطنية في لبنان، فقد نصّ الدستور كما اتفاق الطائف على التوافق الداخلي والحفاظ على العيش المشترك والتعامل بالمساواة والعدل بين مكوّنات الشعب اللبناني دون أي شكل من أشكال التفرقة أو التمييز الطائفي والعرقي والمناطقي، كما شرّعت البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة منذ العام 1992 للمقاومة والشعب اللبناني "اتّخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي"، و"العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال "الإسرائيلي" إزالة شاملة".
ما ذهب إليه سلام ووزراؤه يعدّ ضربًا للعقيدة الوطنية التي تلتزم بها المؤسسات السياسية والعسكرية في لبنان، والتي تنص على أن "لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه"، وأن "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة"، وأن المقاومة حق تكفله المواثيق والأعراف و"إسرائيل" هي العدو. على أن أهمّ ما تضمنته وثيقة الطائف تبقى "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". ولكن أوّل ما ارتكبته حكومة سلام هو ضرب هذا الميثاق وتهديد العيش المشترك. كما أن رضوخه ووزراؤه للضغوط الأميركية وتاليًا "الإسرائيلية" من شأنه أن يعيد لبنان إلى مرحلة الانتداب بين عامي 1926 و1943 التي أعقبت إعلان استقلال "دولة لبنان الكبير"، حيث كانت الحكومات آنذاك تُشكّل بقرار من المفوّض السامي الفرنسي -شكّل الانتداب 23 حكومة خلال 17 عامًا- وكان يحق لهذا الأخير تعليق العمل بالدستور اللبناني وحلّ المجلس النيابي وتشكيل الحكومات وتعيين رؤسائها ووزرائها وإقالتهم للأسباب التي يراها موجبة.
ثمة من يقول إن الرجل ينفّذ ما يراه مصلحة للبنان، ويسعى إلى تحييد البلد عن الصراعات المحتدمة في المنطقة وتجنيبه ويلات الحرب والدمار، وهو ينطلق من خلفيته القانونية والدبلوماسية في التعامل مع المجتمع الدولي، ويرى أن لا مفرّ من الخضوع لإملاءات الإدارة الأميركية كونها تتسيّد العالم اليوم، ومن شأن التجاوب مع المطالب الدولية والعربية أن يمنح لبنان الفرصة للازدهار والانتعاش الاقتصادي، إلى ما هنالك من ذرائع تسوّغ قراراته الحكومية، إلا أن التجربة التاريخية ودراسة الوقائع الراهنة وربطها بالمواقف الأميركية و"الإسرائيلية" تظهر أن ما يجري لا يعدو كونه تشريعًا للاستسلام وتسليم البلد للهيمنة "الإسرائيلية"، ما سيقود الأمور إلى نتائج كارثية على حاضر لبنان ومستقبله، ولعلّ أخطرها:
- تهيئة الظروف لإدخال لبنان في نفق الانقسامات السياسية الحادّة، والتي تتمظهر اليوم في شكل معسكرين، الأول يرفض الوصاية الأجنبية والأميركية ويدعو إلى ممارسة السيادة الفعلية من منطلق وطني شامل بالتوافق على القضايا المصيرية وفي طليعتها تحرير كامل التراب اللبناني واستعادة أبنائه من سجون الاحتلال وإعادة إعمار القرى لتسهيل عودة الأهالي إليها، وبين معسكر مضاد يدعو إلى تسليم مقاليد البلد إلى الأميركي المستعمر وإلى "الإسرائيلي" الممعن في توحشّه وإرهابه.
- توفير المقوّمات النفسية والمادية لإعادة لبنان إلى أتون الحرب الأهلية، لا سيّما أن أطرافًا سياسية داخلية وفي مقدمتها "قوات سمير جعجع" راهنت وما تزال على الاحتلال "الإسرائيلي" تبالغ اليوم في إطلاق تصريحات ذات بعد تقسيمي- طائفي هدفها إشعال النعرات المذهبية والمناطقية وإنشاء خطوط تماس إعلامية، وتعتمد في ذلك على برمجة دعائية ممنهجة وموجهة ومموّلة من جهات وشخصيات عربية.
- إزالة كلّ المعوّقات الميدانية التي تقف عقبة في وجه تنفيذ المخطّط الأميركي - "الإسرائيلي" لابتلاع لبنان وفي مقدمّتها سلاح المقاومة، والجانب الأخطر في هذا المسعى استهداف بيئة المقاومة والشيعة فيها خصوصًا، والترويج لمشروع اقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم إلى خارج لبنان.
- توريط الجيش اللبناني وهو المؤسسة الجامعة للبنانيين في صدامات داخلية تسقط وظيفته السامية والكبرى في حماية البلد وصون حدوده والدفاع عنه في وجه التهديدات والمخاطر الخارجية ولا سيما "الإسرائيلية" منها، وإلا فإنه سيتحوّل إلى شرطة أمن داخلي بعد ابتلاع "إسرائيل" للبنان.
إنّ تحقّق هذه الأمور هو بمثابة زوال لبنان عن الخارطة، وهذا ما حذّر منه سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله (قدس سره) وكذلك الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم الذي أطلق صرخة تحذير لكل اللبنانيين على اختلاف مستوياتهم الرسمية والسياسية والحزبية والشعبية من أن أي فتنة تستهدف لبنان ستصيبه في صميم وجوده وقد تؤدي إلى تفكّك مكوّناته واندثار كيانه، ولا يمكن تفادي هذه النتائج الكارثية إلا من خلال حوار داخلي يفضي إلى اتفاقات تحافظ على مكامن قوة لبنان في جيشه وشعبه ومقاومته بعيدًا عن أي تأثير خارجي ليأتي القرار الوطني كاملًا وشاملًا ويضمن السيادة والاستقلال والازدهار.