تحقيقات ومقابلات

يحدث أن تسمع مرَّة أحدهم يتحدث عن (المنزل)، فيخطر في بالك شخص لا مكان. شعور بالوحدة في حضرة الجميع. كأننا نحاول عبثًا أن نجد في وجوههم بقايا ذلك الوجه الذي غاب. أن نعيد عقارب الزمن إلى الوراء. أن نمسك بأطراف الحديث الذي انقطع. ونطارد أصداء أصواتهم في فضاء الذاكرة. كان الفراق ولا يزال سنّة الحياة التي لا تبديل لها. ولكنَّ فراق "الشهيد" مختلف. فهذه الكلمة لها في الإطار الإسلامي قداسةٌ خاصةٌ، والإنسان الذي يعيش المفاهيم الإسلامية، ينظر إلى الشهادة بأنها الكرامة التي يمنُّ الله تعالى بها على من يجتبيه من خلقه. فالشهداء "أحياء" و"عند ربهم يرْزَقون" وما أعظمها من منزلة.
تحضُرنا هنا غدير، ابنة الشهيد ماهر سيف الدين، وأخت الشهيد علي سيف الدين، زوجة الشهيد أحمد حسن سكاف، حيث تتوازى خُيوط الفَقد على اختلافها؛ لكنَّها تتَّصل في أمرِ التَّسليم المُطلق واليقين بحكمة الله في ما وقع.
تنظر إليها، تتبادر إلى ذهنك تساؤلات كثيرة: ما السر؟ أيُّ سكينة يُنزلها الله على قلوب من اشترى حبيبًا منهم؟ فكيف بمن قدمت أباها وزوجها وأخاها، فيما تقف محتسبة صابرة ثابتة؟
غدير ابنة الأربع سنوات التي فقدت والدها باكرًا في عدوان تموز الـ 2006، عادت وعايشت الفَقد وهي في ريعان شبابها، حيث استشهد زوجها وأخوها في معركة أولي البأس عام 2024، وزفّتهما إلى منزلهما الجديد، صابرة محتسبة.
ليس الفقد مجرد غياب شخص ما فحسب، بل هو انكسار في صميم الروح، تخبرنا غدير، هو ذلك الشعور الخفي الذي يطبق على القلب في الليالي الطويلة، حيث لا صوت إلا همس الريح العابرة. كل الأشياء من حولك ظلال باهتة، وكل التفاصيل كأطياف من الذكرى لا تكاد تلمسها حتى تتلاشى بين يديك. وما يعزِّينا فقط هو صبر زينب (ع) وقداسة السير في هذا الطريق.
لا تذكر غدير والدها، هي بعض صور وذكريات؛ تحمله في داخلها بطلاً مقدامًا، من أولئك الذين حفروا بأناملهم تضحياتهم في وجه الاحتلال. تقول غدير: "منحني أخي شعورًا لطيفًا. فقد كان بمقدوري الاتكاء عليه بعدما فقدت والدي. لقد أعطاني أمانًا لا مثيل له. كنت أخبره بأدق التفاصيل. كان حبه سلسلًا جميلًا. أخي كان سندي وخطَّ دفاعي الأول، سرنا معًا في تلك الرحاب الأخوية يساند أحدنا الآخر. علاقتي بعلي تمتد إلى أيام الطفولة، ومواقف العمر التي لا تُنسى". تضيف: "كم هو جميل أن يكون للإنسان أخ يسانده في الأوقات الصعبة". لكنْ، مع الأسف، لم تُكتب لي هذه النعمة مديدًا، فرحل علي باكرًا، ورغم ذلك، فإن تلك الصلة العميقة بيني وبينه لم ولن تنقطع، "فما رأيت إلا جميلًا".
انتظار أحمد
عمَّ الصمت مجلسنا، سألتها عن أحمد، زوجها. عن ذلك اليوم الذي حدَّقت به جيدًا؛ للمرة الأخيرة. تجيب: "كان قدومه يضْفي حنانًا بشكل مفرط، نيابة عن كل ما ومن آذاني".
هناك في الجنوب، حيث بات كل شيء فيه رائحة الانتظار، بحثت غدير عن زوجها؛ "عندما انتهت الحرب، ولم يعد بإمكاني الانتظار، بحثت عن زوجي في برادات المستشفيات، سألت عنه المعارف والأصدقاء، علّني أصل لأي خبر أو معلومة". أسألهم: "هل استشهد أحمد؟". أحدث نفسي أن أحمد سيأتي. يومًا بعد يوم، وأنا ما زلت أنتظره، الجميع يقول لي استشهد، وأنا متمسكة بأمل عودته.
تقول غدير: "انتظرته، ولم يأتِ، البيت يعبق برائحة أحمد، ولكنه لم يعد، إلا أن طعم الانتظار فيه نكهة لا يعرفها إلا أهل العشق"، مردفة: "لم أستطع تقبل فكرة عدم حضوره، كانت تقلقني منذ زواجي به، ولكنني استشعرت حينها صبر السيدة زينب (ع)".
إن البيوت التي ينزل فيها البلاء تباعًا هي بيوت مختارة لرفع درجات أهلها من الله، ترى غدير، مؤكدة أنه يتوجب عليها أن تجتاز هذا الامتحان بجدارة، وأن تحافظ على أطفالها، فتصون دماء الشهداء.
تحدثنا عن بعض المواقف التي شعرت فيها بالمسؤولية. "ماما، عانقيني" تطلب ابنتها. تعانقها طويلًا وهي التي عايشت يُتمها وشعرت بفقدها. تجيبها أن أباها لن يأتي قريبًا. وتتذكر غدير أن عليها أن تخوض معركة إضافية مع طفليها لرعايتهم صحيًّا ونفسيًّا وتربويًّا ومن كل الجوانب بمفردها. تعلم في قرارة نفسها، أنهما أصبحا بلا أب، وأن عليها أن تكون في هذه اللحظة وفي كل لحظة، الأم والأب معًا، بعدما كان أحمد يدير البيت بكل مسؤولياته.
يمكن القول، إن ما تحياه غدير صعب بغياب الأب والأخ، ولكنها من أعظم المواقف المكلّلة بكثير من الصمود والتضحية والإباء، إذ تسطر غدير حكاية نصر. والعجيب في عوائل الشّهداء، أن الدم الذي يسقط مرة، يتجدّد. فغدير تؤكد أن ابنها سيمضي على خطى الشهداء، ولن تتوانى عن تقديمه في سوح الجهاد، وسيبقى على على خُطى أبيه وجده وخاله أكثر من أيّ وقت مضى، منادية: "خذ حتَّى ترضى..".