مقالات

أملى التدخل المباشر في أحداث السويداء مسارًا جديدًا للتطورات التي كانت تمضي في اتّجاه مختلف، فبينما كانت "الإدارة المؤقتة" في دمشق تجري مفاوضات مع كيان العدوّ في دولة الإمارات وآذربيجان بهدف التوصل إلى اتفاقات تنظم العلاقة بين الجانبين بشكل رسمي، جاءت الأحداث في السويداء لتدفع الأمور في اتّجاه حرب أهلية سورية. فهل مزقت هذه الأحداث نتائج اللقاءات المذكورة، أم انها تشكّل الوقود اللازم لتبرير مخرجاتها؟ وهل عاد العدوّ إلى خطته الأصلية بدعم تقسيم سورية بعد ما جرى في السويداء؟
تغيرات الجنوب السوري
تتحرك الأحداث على الساحة السورية بطريقة غير نمطية وتوحي بأنها خاضعة لعوامل داخلية معقّدة وتدخلات خارجية يصعب معها التنبؤ بمسارها. فقد بدا من الغارات "الإسرائيلية" التي استهدفت مقر هيئة الأركان السورية ومحيط القصر الجمهوري في دمشق أن هناك اختلافًا حول تنفيذ ما تم نسجه في الاجتماعات بين حكومة دمشق المؤقتة والجانب الصهيوني في أبو ظبي وباكو، بعدما حركت الأولى قواتها المدرعة في اتّجاه الجنوب وسيطرت على مدينة السويداء على خلفية اشتباكات بين سكانها الدروز وجيرانهم البدو المنتشرين في المحافظة. واعتبر الجانب الصهيوني أن دمشق خرقت خطًا أحمر رسمه باعتبار منطقة الجنوب التي تضم محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء بقعة منزوعة السلاح. وجاءت الغارات على دمشق، مضافة إلى غارات على القوات التي دخلت إلى السويداء، لتحدث ثقبًا كبيرًا في آلية التنسيق التي ذكرت تقارير أنه تم وضعها بوساطة إماراتية. لكن انفجار الوضع بهذا الشكل بعد اجتماعات باكو بين الجانبين يشير بالخصوص إلى أن حكومة دمشق فهمت من التقدم الحاصل على صعيد العلاقات مع الجانب "الإسرائيلي" أنه يمكن ترتيب الوضع في السويداء بغضّ طرف من الأخير، لكن الطريقة التي تمت بها عملية الدخول إلى السويداء أحدثت بلبلة في الجانب "الإسرائيلي". ويبدو أن دمشق لم تدرك طبيعة الوضع الداخلي في كيان العدو، وما يمثله دروز فلسطين المحتلة من أهمية انتخابية لدى حزب "الليكود"، فضلًا عن حضورهم في جيش الاحتلال حيث تفوق نسبة من يخدمون منهم 85% بما يفوق نسبة اليهود، وفق تقارير، وإن كانت هذه النسبة تراجعت في السنوات الأخيرة بفعل التعبئة الاجتماعية الداعية لرفض الخدمة العسكرية. كما أن من بينهم ضباطا كبارًا أبرزهم اللواء غسان عليان الذي شغل منصب منسق أعمال حكومة الاحتلال في الضفّة الغربية. إشارة هنا إلى أن البدو العرب يخدمون أيضًا في جيش الاحتلال لكن عددهم أقل ويصل إلى مئات عدة.
وجاء انسحاب القوات المحسوبة على وزارة الدفاع السورية من السويداء نتيجة التدخل المباشر ليتسبب بتداعيات لدى الجانب السوري، واختلطت الأوراق مجددًا مع تصاعد الاشتباكات بين الدروز والبدو وتدخّل عشائر من مناطق أخرى لمساندة البدو. وينذر هذا الموقف باحتمالات أسوأ مع تحوله إلى ما يشبه حربًا أهلية طائفية في ضوء الشحن المتبادل الذي وصل إلى دول الجوار حيث يقيم مناصرون للجانبين. ويستفيد العدوّ من هذا المناخ ليجرّ من تبقى من دروز السويداء، فضلًا عن أهالي الجولان المحتل، إلى ضفته والتأسيس لحزام أمني فعلي في مناطق الجنوب السوري بذريعة منع التطهير الطائفي أو العرقي، وهي ذريعة قد تلقى قبولًا لدى الغرب الأميركي والأوروبي.
وثمة من يرى أن سلطة دمشق أخطأت في إفساح المجال أمام مشاركة قوات "غير منضبطة" في عملية السويداء، ما أفسح المجال أمام انتهاكات أحرجت الجانب أمام دروز فلسطين الحاصلين على الجنسية الإسرائيلية والذين تحركوا على وجه السرعة لنجدة أبناء طائفتهم في السويداء. وهذه الانتهاكات اعترف رئيس الإدارة الانتقالية أحمد الشرع بوقوعها وتعهد بمحاسبة المتورطين فيها، وهو تكرار للتعهد الذي قطعه بعد الضجة التي أحدثتها مجازر الساحل السوري بحق المواطنين العلويين في آذار/ مارس الفائت، لكن هذا التعهد لم يترجَم فعليًا، ولم تصدر حتّى اليوم نتيجة التحقيق الرسمي في هذه الأحداث بالرغم من مضيّ مهلة الشهر المحدّدة لإنجازها. وقد يفسَّر هذا الأمر بوجود تراخٍ مقصود في معالجة انفلات المليشيات بالرغم من الحديث عن دمجها في وزارة الدفاع، أو بضعف سلطة الحكومة المؤقتة على هذه المليشيات.
المنظور الأوسع
على أن هناك عوامل أخرى تسهم في إنتاج المشهد السوري الحالي لعلّ أبرزها عدم وجود توافق وطني على إدارة البلاد. فالمعروف أن تأجيل البتّ بالمرحلة الانتقالية وتسلّط فريق واحد على إدارة الدولة السورية أدّيا إلى إقصاء فرقاء آخرين عن المشاركة، وبالتالي إلى إحداث فجوة واسعة بين مكونات المجتمع السوري العريض. يضاف إلى ذلك تفشي الخطاب الطائفي وما يستتبعه من ممارسات بشكل مرضيّ، ما أدى إلى توسيع الهوة أفقيًا وعموديًا واصطفافات تحول دون بناء دولة موحدة قد تهدّد بتقسيم سورية أو تحولها إلى دولة فاشلة.
إلى جانب هذا العامل السلطوي، هناك صراع إقليمي - إقليمي على سورية. وفي مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، هناك جناحان في الفضاء العربي والجوار يتجاذبان هذا البلد ويحاول كلّ منهما أن يكون المرجع الأول في تحديد توجهاته: تشكّل تركيا وقطر الجناح الأول الذي كانت له بصمات في سورية منذ عام 2011، بل وفي أحداث ليبيا ومصر والسودان أيضًا. وتمثل الإمارات والأردن جناحًا ثانيًا، ولأبو ظبي أيضًا بصماتها في هذه البلدان. وتقف السعودية في الوسط في الوقت الحالي، وهي ليست على وئام مع الإمارات ولا مع قطر وتركيا في إدارة الشأن الإقليمي. وقد تلتقط الإمارات فرصة الهجمة "الإسرائيلية" في جنوبي سورية لمحاولة إعادة محاولة التأثير على مسار الأوضاع في هذا البلد، بعدما أسست علاقة وثيقة مع رئيس النظام السابق بشار الأسد لكنّها لم تتمكّن من استثمارها طويلًا بفعل سقوط النظام بشكل مفاجئ. وهي تحتاج إلى قوة فاعلة مساندة من أجل تقليص حضور الجماعات الإسلامية التي تنتمي إلى "الإخوان المسلمين" أو المنبثقة منها.
كذلك، يوجد تباين أميركي - "إسرائيلي" في التعامل مع المشهد السوري، لا سيما أن الجانب الأميركي يرعى أحمد الشرع شخصيًا وقد رفعه مؤخرًا مع "جبهة تحرير الشام" أو "جبهة النصرة" من لائحة الشخصيات والمنظمات الإرهابية الأجنبية. ويرى الجانب الأميركي أن الشرع غيّر كثيرًا في توجّهاته "الجهادية" ويمكن إعطاؤه فرصة لإثبات نفسه. ويتولى الموفد الأميركي توم برّاك التنسيق المباشر مع الشرع، بعدما فتح السفير السابق في سورية روبرت فورد قناة اتصال تمهيدية معه. في حين يفضل اليمين الحاكم فرض رؤيته الأمنية على دول الجوار بالقوّة وعدم أخذ حسن النوايا والتصريحات بعين الاعتبار. وقد يكون دعم إقامة حزام أمني أو حتّى تقسيم سورية فعليًا ترجمة لهذه الرؤية.
لكن التباين الأميركي - "الإسرائيلي"، على غرار تباينات أخرى في شأن غزّة وإيران، قد ينتهي بتبني سياسات تتفق مع مصالح "إسرائيل" إلى حد كبير بفعل هيمنة ثبات نتنياهو على تذبذب ترامب في التعامل مع قضايا المنطقة.
في المحصلة، تتداخل العوامل الداخلية السورية المعقّدة مع نظرة القوى الخارجية لتفتح الباب مشرعًا أمام متغيرات سريعة، على غرار ما جرى في بداية الأحداث السورية عام 2011 وما بعدها من تبدلات في المواقف الإقليمية والدولية وتغير الخارطة السورية مرارًا.