مقالات

وسط حالة من العربدة الصهيونية التي تحتمي بالقوّة والغطاء الأميركي، وتتعمد تصدير حالة يائسة لشعوب المنطقة بأن الكيان له اليد الطولى ولا تمنعه قوانين ولا تقيد همجيته روادع، جاء خبر الإعلان عن اغلاق ميناء "إيلات" بشكل رسمي بسبب الحصار اليمني، ليكبح هذه الحالة، وليخلق وقفة عز للمقاومة ومحطة رصد وتأمل لجدواها.
ولعل أول ما سيجده من يتأمل الصورة، هو أن أميركا وذيلها الصهيوني لا يستطيعون المواجهة المباشرة مع المقاومين، وأن إنجازاتهم محصورة في نطاق الجرائم والغدر والاستقواء على المدنيين والعزل من جهة، وعلى الحكومات الجبانة التي تخشى المواجهة وتستخدم أسلحتها في مواجهة شعوبها فقط، من الجهة الأخرى.
بينما كلّ المواجهات الأميركية والصهيونية مع دول وحركات المقاومة ورجالها تنتهي بهزيمة نكراء وبمسارعة الكيان بطلب وقفها بذرائع مختلفة ثمّ ممارسة الغدر بطرق أخرى ملتوية، وهو ما حدث مع لبنان وإيران ولا يزال يجري مع اليمن وأبطال المقاومة في غزّة.
وقد حاول الكثيرون تقزيم أهمية الدور اليمني والاستخفاف به، باعتبار البعد الجغرافي ومحدودية الموارد والتسليح اليمني، بينما أثبت اليمن للجميع، أنه صاحب المفاجأة الإستراتيجية غير السارة للأعداء في هذا الصراع، حيث دشن معادلة ردع صامدة كورقة قوة في يد المفاوض الفلسطيني، ودشن قوة بحرية إقليمية استطاعت طرد النفوذ الأميركي وامتلكت المبادرة في البحر الأحمر وبحر العرب وشمال المحيط الهندي، ليصل تأثيرها الإستراتيجي إلى أبعاد عالمية بلحاظ وصوله لمضيق من أهم المضائق البحرية في العالم وهو باب المندب، وممر هو الأهم في العالم وهو قناة السويس.
وقبل الخوض في بيان أهمية إغلاق ميناء إيلات على وقع الحصار اليمني وبيان أهمية ذلك إستراتيجيًّا ومدى خسارة الكيان، يجب لفت الأنظار إلى نقطتين في غاية الأهمية:
الأولى: أن اليمن يهدّد مدينة "إيلات" بكاملها لأنه استهدفها بصواريخه الباليستية أكثر من مرة، وهو ما يضيف مخاطر إستراتيجية باعتبار المدينة لها أهمية كبرى لا تقتصر على الميناء الصهيوني الوحيد على البحر الأحمر فقط.
الثانية: تهديدات اليمن للكيان وصلت إلى موانئ أخرى والى فرض حصار جوي باستهدافات متكرّرة لمطار اللد "بن غوريون"، وهو ما يهدّد بمستقبل مشابه لميناء "إيلات" قد ينسحب على الموانئ الأخرى بالمتوسط وعلى المطار الرئيسي في الكيان.
ولبيان أهمية هذا الحدث وهذا الإنجاز الكبير للمقاومة في اليمن، لا بد من استعراض عدة بيانات وإرفاقها ببعض الشروح والدلالات:
1 - بحسب القناة 12 "الإسرائيلية" وصحيفة غلوبس الاقتصادية، فإن السبب الرئيسي هو تجنب مرور شركات الشحن العالمية عبر الممرات المؤدّية إلى ميناء "إيلات" خوفًا من الأخطار الأمنية، ونتيجة لذلك، انعدمت إيرادات الميناء بعد فقدانه مصدر دخله الأساسي من رسوم الشحن والخدمات.
والدلالة المباشرة هنا، هو أن الاقتصاد العالمي يتميّز بالجبن وأنه لا يعترف بانحيازات السياسة والتحالفات العسكرية، وبالتالي لن يستطيع حماية الكيان وأمنه الاقتصادي والتضحية من أجله بالمكاسب والأرباح، وهو ما يؤكد جدوى المقاومة وجدوى استهداف المصالح الاقتصادية.
2 - كشفت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أن الحكومة "الإسرائيلية" طلبت رسميًا من الولايات المتحدة استئناف الغارات ضدّ الحوثيين، وطرحت فكرة إنشاء تحالف عسكري دولي لتعزيز أمن الملاحة البحرية، ونقلت الصحيفة عن مسؤول أمني، حديثه عن حاجة ملحّة إلى تحالف أوسع يوجه رسالة رادعة للحوثيين بعد إغراق سفينتين وخطف طواقمهما خلال هذا الأسبوع.
وهي دلالة مباشرة على فشل الكيان في ردع أنصار الله، والاستعانة المعتادة بالراعي الأميركي، وهي محاولة فاشلة لأن أميركا لم تتحرك بعد استنفاد محاولاتها لردع اليمن، والتي باءت بالفشل وانتهت إلى طرد حاملات الطائرات الأميركية وإسقاط الردع الأميركي.
3 - في التأثير الاقتصادي المباشر، يعد ميناء "إيلات"، الذي تأسس في خمسينيات القرن الماضي، المنفذ البحري الوحيد للكيان "الإسرائيلي" على البحر الأحمر، وكان قبل تصاعد الأزمة يستخدم لاستيراد السيارات، والأدوية، والسلع الاستهلاكية، وتصدير الفوسفات إلى الصين والهند، ولا يقتصر تأثير الحصار البحري اليمني على قطاع الموانئ وأرباحها ودورها اللوجستي فقط، بل وصل لقطاع الشركات الناشئة، حيث أشارت بيانات رسمية إلى أن 44% من الشركات الناشئة هربت من "إسرائيل"، مع إغلاق شركات بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام لتعطل سلاسل التوريد نتيجة للحصار البحري المفروض من اليمن، كما أن هذا الحصار فرض تكاليف إضافية هائلة على شحن المواد الخام، تجاوزت 300%، ما انعكس مباشرة على أسعار السلع النهائية، وهو ما تسبب في موجة غلاء كبرى في كيان تعتمد أسواقه بشكل رئيسي على الواردات.
4 - التهديد اليمني لا يقتصر على الميناء بل يشمل كامل "إيلات" وهو بالتالي يحمل تهديدات إستراتيجية أاعمق يمكن الإشارة لبعضها تاليًا:
أولًا: بعد اتفاق التطبيع بين الكيان والإمارات، أُعيد إحياء مشروع أنبوب "إيلات - عسقلان" عام 2021 بعد توقيع اتفاق تقوم بموجبه ناقلات نفط عملاقة بنقل الخام الإماراتي إلى ميناء "إيلات"، ثمّ ضخه عبر أنبوب إلى ميناء "عسقلان" الواقع على شاطئ البحر المتوسط، ثمّ إلى دول الغرب، وهو ما سيتم تعطيله بفعل المقاومة اليمنية.
ثانيًا: تعمل الحكومة الصهيونية على ربط "إيلات" بموانئها الأُخرى المطلة على البحر الأبيض المتوسط، عبر خطوط سكك حديدية أبرزها "مشروع خط قطار سريع" الذي كشف عنه في تموز/يوليو 2023، ويلقبه الإعلام العبري بـ"قناة السويس الداخلية".
ثالثًا: كان مخطّطًا ان يتم وصل ميناء إيلات بـ"كريات شمونة" في أقصى الشمال على الحدود مع لبنان بتكلفة قد تصل إلى نحو 27 مليار دولار، ويمر عبر صحراء النقب التي تفصل "إيلات" عن الداخل "الإسرائيلي".
رابعًا: تُعد "إيلات" مدينة سياحية هامة، حيث تستقبل نحو مليون سائح سنويًا يسهمون في تمويل أكثر من 80% من مداخيل المدينة التي تُعد السياحة اليوم مصدر دخلها الرئيسي.
خامسًا: يسعى الكيان إلى أن تكون إيلات جزءًا من مشروع "نيوم" السعودي، إذ إنها تقع إلى الشمال من الحدود السعودية، وتبعد عن "نيوم" أقل من 200 كيلومتر. وتعتبر "إسرائيل" هذا المشروع "جسرا" لتعزيز الاتفاقيات الإبراهيمية.
وهناك العديد من المزايا الإستراتيجية لـ"إيلات" ومينائها وخاصة على المستويات العسكرية وإجراءات الدفاع والجوانب العملياتية في حالة الحرب، وهو ما أهدره الصمود اليمني وتطوير القدرات والتحلي بشجاعة المواجهة وسط إجماع شعبي يمني على المقاومة وضروراتها الأخلاقية والدينية والإستراتيجية في حماية الأمة وحماية اليمن.
وقد أقام اليمن الحجة على جميع الشعوب والأنظمة، حيث إنه دولة محاصرة تعاني من الاستهداف والعدوان منذ سنوات طويلة، ولكنه أصر على الكرامة والمقاومة ووجه سلاحه للأعداء بينما وجدنا حكومات تنال اعترافا دوليًّا ورفعًا للحصار توجه سلاحها لشعوبها وتجبن عن مواجهة الكيان.