مقالات مختارة

"مذبحة طحين" في غزّة: مصيدة المساعدات قائمة
مجزرة جديدة عند بوابة "زيكيم" في قطاع غزة حيث حوّل الاحتلال توزيع المساعدات إلى فخ دموي، وأطلق النار على آلاف الجوعى المحاصرين شمال القطاع.
يوسف فارس - صحيفة الأخبار
غزّة| على مدار 12 ساعة، قامت سيارات الإسعاف والعربات التي تجرّها الدواب، بنقل المصابين والشهداء من محيط بوابة «زيكيم» شمال مدينة بيت لاهيا في شمال قطاع غزة، حيث سقط هؤلاء حين أطلقت قوات الاحتلال النار على الآلاف من الجوعى الذين هرعوا إلى تلك المنطقة الخطيرة لانتظار المساعدات، إذ لا يسمح جيش العدو للشاحنات التي تحمل الطحين بالوصول ضمن آلية منتظمة إلى مخازن المؤسسات الدولية، ويفرض آلية جديدة أُطلق عليها اسم «التوزيع الذاتي»، كغطاء للفوضى والمجازر المترافقة معها.
وبهذه الطريقة التي تحوّلت إلى مصائد للقتل والموت المجاني، تُسرَّب الأخبار بشكل غير رسمي إلى الأهالي عن دخول شاحنات المساعدات من منطقة معنية؛ وبناءً على تلك المعلومات، يهرع الآلاف إلى الطريق الذي يحدّده جيش العدو لعبور الشاحنات. وأول من أمس، سُمح للشاحنات بالتوقّف قرب بوابة قاعدة «زيكيم» العسكرية أقصى شمال مدينة بيت لاهيا؛ وما إن دخلت أولى الشاحنات، وهرع الشبان للحصول على الطحين منها، حتى فرضت دبابات العدو حصاراً على المحتشدين من كل الجهات، وبدأت بإطلاق النار والرصاص بشكل عشوائي في اتجاههم.
ويقول محمد عاشور، وهو أحد المصابين الذين نجوا بأعجوبة من المجزرة، إن «جيش الاحتلال أجبر سائقي الشاحنات على التوقّف في منطقة مكشوفة وخطيرة، وعندما اندفع مئات الشبان للحصول على الطحين، كانت الكمية قد نفدت، ثم أدخل شاحنة أخرى، ولمّا اندفع الشبان مجدّداً، بدأ القصف المدفعي وإطلاق الرصاص المكثّف من الجنود. حوصرنا لأكثر من 8 ساعات وكان الجنود يطلقون الرصاص في اتجاهنا بشكل عشوائي ومكثّف.
قُتل العشرات من الشبان وأصيب آخرون». ووفقاً لعاشور، فإن عدد الشاحنات التي أُدخلت، أمس، هو ثماني شاحنات فقط، بينما كان يحتشد في انتظارها نحو 150 ألف جائع للحصول على الطحين. ويقول: «كانت مقتلة كبرى. رأيت جثامين شهداء بنصف جسد، ورأيت آخرين نزفوا حتى الموت، ولم يجدوا أحداً يسعفهم».
وفي ساحة مستشفى «الشفاء» في مدينة غزة، كان المشهد كارثياً، حيث اصطفّت عشرات الجثامين الملفوفة بأكفان كُتبت على أكثرها عبارة «شهيد مجهول»، في حين انتظرت المئات من الأمهات اللواتي فُقد أبناؤهن خبراً يبرّد نار قلوبهن. وتقول أم أحمد: «ابني خرج منذ الصباح لانتظار شاحنات المساعدات، وحتى اللحظة لا نعرف أي خبر عنه. تأمّلت في وجوه كل الشهداء، وبحثت عنه في ثلاجات الموتى، وأرسلت بقية أبنائي للبحث عنه في بيت لاهيا، ولا خبر عنه حتى اللحظة. ذهب ليحضر لنا الطحين، فمنذ ثلاثة أيام لم نأكل أي شيء».
ووفقاً لمصادر ميدانية، فقد حاصر جيش الاحتلال على مدار 12 ساعة آلاف الشبان وأطلق النار المكثّف عليهم، ثم اعتقل العشرات منهم، وأطلق سراح بعضهم وأبقى على آخرين رهن الاعتقال. وتقول وزارة الصحة في غزة إن أكثر من 100 شهيد و250 مصاباً سقطوا في مجزرة المساعدات في «زيكيم»، فيما لا يزال العشرات من الشبان في عداد المفقودين.
ويأتي ذلك فيما يواصل جيش الاحتلال فرض حصار كامل على غزة، حيث لم يسمح منذ أربعة أشهر بدخول المساعدات بطريقة تضمن وصولها إلى المستحقّين، فيما يحصر آلية توزيعها بمصائد الموت الأميركية. ويوزّع جنود الشركة الأميركية كميات محدودة في أربعة مراكز أقيمت في مناطق عسكرية في وسط القطاع وجنوبه، ويُجبَر الشبان على المسير لعشر ساعات متواصلة للوصول إليها.
وتحوّلت تلك المراكز في ما بعد إلى مصائد قتل يومية، ولا يتوجّه إليها في العادة إلا أفراد عصابات - من المغامرين - شبه منظّمة، يتحكّمون في أسعار السلع والبضائع في الأسواق. أما طريقة «التوزيع الذاتي» التي أُجبر عليها «برنامج الغذاء العالمي» بدعوى منع حركة «حماس» من السيطرة على المساعدات، فأصبحت هي الأخرى وسيلة للقتل الجماعي، حيث يصل متوسط قتلى المساعدات اليومي إلى 30 شهيداً.
وأدان «برنامج الأغذية العالمي» و»وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» المجازر الإسرائيلية، وأكّد البرنامج وقائع المجزرة التي تخلّلها إطلاق جنود الاحتلال النار بشكل عشوائي على الجوعى. وحذّر في بيان من أن المجاعة وصلت إلى مستويات صادمة، وطالب بتوفير الظروف المناسبة للعمل في غزة وإدخال المساعدات فوراً. وأشار إلى أن ثلث السكان لا يتناولون الطعام لعدة أيام، مضيفاً أنه أدخل 10% فقط من المساعدات إلى القطاع منذ منتصف أيار الماضي.
وأكّد البرنامج أنه يتوافر خارج غزة ما يكفي من الطعام لسكان القطاع جميعهم، حيث حالات الوفاة ترتفع سريعاً جراء سوء التغذية. وفي السياق ذاته، أصدرت بريطانيا ومعها 25 دولة أوروبية بياناً طالبت فيه بوقف الحرب على غزة فوراً، ودعت إسرائيل إلى الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بما فيها رفع القيود عن تدفّق المساعدات إلى القطاع. ودان البيان آلية توزيع المساعدات، مؤكداً أن «800 فلسطيني قُتلوا أثناء السعي للحصول على المساعدات». كما طالب إسرائيل بتمكين الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من القيام بدورها.