مقالات مختارة

قراءة في خطاب قاسم: شراكة إستراتيجية بين المقاومة والدولة
في لحظة فارقة من تاريخ لبنان، تتقاطع فيها الضغوط الدولية مع التآكلات الداخلية، وتُدفع الدولة نحو فقدان توازنها الهش تحت وطأة الابتزاز السياسي والأمني الذي تمارسه الولايات المتحدة والعدوان "الإسرائيلي"
علي حيدر - صحيفة الأخبار
في لحظة فارقة من تاريخ لبنان، تتقاطع فيها الضغوط الدولية مع التآكلات الداخلية، وتُدفع الدولة نحو فقدان توازنها الهش تحت وطأة الابتزاز السياسي والأمني الذي تمارسه الولايات المتحدة والعدوان "الإسرائيلي" المتواصل، جاء خطاب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، ليقدّم مقاربة سياسية متكاملة، لا تقتصر على ردّ فعل آني، بل ترسم مسارًا للخروج من المأزق الذي تسعى إدارة ترامب إلى دفع لبنان إليه، لإرغامه على التخلي عن عناصر قوته.
وهو، إذا ما تلاقت معه مؤسسات الدولة بجدّية، يشكّل فرصة لإحداث تحوّل كبير في المشهد، ويفتح أمام لبنان آفاقًا جديدة للمناورة السيادية.
نجح خطاب الأمين العام لحزب الله في تحويل السلاح، الذي دائمًا ما اعتُبر "عقبة" أمام الدولة، إلى فرصة استثنائية لتمكينها وتعزيز حضورها، عبر إعادة تعريف العلاقة بين المقاومة والسلطة، لا على قاعدة التوازي أو التنازع، بل على أساس التكامل والتوظيف الإيجابي لها، في ظل تصاعد التهديد "الإسرائيلي" الذي بات أكثر وحشية نتيجة متغيرات داخلية وإقليمية، إضافة إلى السيناريوهات الخطيرة التي يفتحها الوضع السوري، وتداعياتها على مستقبل لبنان وأمنه ووجوده.
فالخطاب، على خلاف ما اعتادته الساحة اللبنانية من مواقف دفاعية متوترة، قدّم سردية متماسكة تؤسّس لإمكانات سياسية ودستورية قابلة للتوظيف في المعركة التي تخوضها الدولة لتثبيت موقعها السيادي في وجه الإملاءات الخارجية.
وهو لم يكن استعراضًا لقوة السلاح، ولا تكرارًا لمسلّمات أيديولوجية، بل ممارسة فعلية للعمل السياسي الدقيق: أعاد ترتيب الأوراق، وأعاد تظهير موقع المقاومة كحالة لبنانية جامعة لا طائفية، وكذراع دفاع سيادي لا تهديدًا أمنيًا، وكشريك للدولة في تثبيت الأمن لا طرفًا يتخطاها.
ويعزز هذا المسار حضور الرئيس نبيه بري في واجهة المحادثات، وهو قبل أن يكون رئيسًا لمجلس النواب، كان ولا يزال قائد حركة مقاومة، وواقعية رئيس الجمهورية جوزيف عون، وإدراك رئيس الحكومة نواف سلام للمخاطر الداخلية والخارجية.
في مواجهة التهديدات المحدقة بلبنان، من العدوان "الإسرائيلي" المستمر، إلى الضغوط الأميركية الهادفة إلى فرض تسويات تُطيح بما تبقّى من توازن وطني، وصولًا إلى الانقسام الداخلي الذي يُراد له أن ينزلق إلى فتنة دموية - منح الخطاب الدولة اللبنانية فرصة نادرة لاستعادة حضورها وقرارها من موقع الشراكة، لا التبعية.
وبهذا المعنى، لم يكن خطاب قاسم موجّهًا إلى خصوم المقاومة فحسب، بل خاطب مؤسسات الدولة نفسها، مؤكّدًا أن المقاومة ليست بديلًا منها، بل انعكاس لقوتها، إذا ما قررت أن تكون فعلًا دولة ذات سيادة وقرار مستقل.
وعبر تأكيده التزام المقاومة بالاتفاقات السابقة، وتسليمها الجنوب للدولة بعد التحرير، يفتح الخطاب أمام الدولة نافذة لتعزيز موقعها التفاوضي.
فالمقاومة أدّت دورها، رغم التضحيات اليومية التي لا تزال تقدمها، في ما خرقت "إسرائيل" التفاهمات، وتنكرت واشنطن لها لتمكين العدوّ وتبرير عدوانه.
وهذا يتيح للدولة اللبنانية أن تتقدّم بموقف أكثر مشروعية، سواء في الداخل أو في مواجهة الخارج، بدل الانخراط في اتفاق جديد يُكافئ المعتدي ويُدين الضحية عبر تكريس الوقائع التي فرضها الاحتلال.
كما إن كشف النفاق الدولي بهذا الوضوح، يمنح لبنان مساحة جديدة للمناورة الديبلوماسية، خصوصًا إذا ما قرّر إخراج ملف سلاح المقاومة من دائرة السجال الداخلي الضيق، ووضعه في إطار معادلة ردع ودفاع وطني.
وما ينبغي التوقف عنده أيضًا أن الخطاب لم يُغلق باب النقاش حول إستراتيجية الأمن الوطني والإستراتيجية الدفاعية، بل أعاد فتحه، إنما من زاوية عقلانية وشروط واقعية: أولًا، مواجهة المخاطر المحدقة، ثمّ الانتقال إلى الحوار حول القضايا الخلافية.
وبهذا، قدّم الخطاب لحظة توافق وطني نادرة، تُعيد ترتيب الأولويات على أساس التهديدات الفعلية لا الولاءات الضيقة. وهنا تحديدًا تكمن الفرصة الأكبر للدولة: أن تبني على هذا الطرح، فتعيد تأطير النقاش السياسي والأمني بما يخدم مشروعًا دفاعيًا سياديًا جامعًا، يشكّل بديلًا حقيقيًا من مشاريع الهيمنة أو الطروحات الخارجية التي تسعى إلى تحويل لبنان إلى ساحة مفتوحة بلا مناعة أو قرار.
من هنا، حرص الأمين العام لحزب الله على تقديم خطابه بلغة هادئة، ومضمون حازم، ونبرة عقلانية. فالتركيبة المنطقية للحجج، وتسلسل الأفكار، تُخرج الخطاب من دائرة الانفعال إلى فضاء العقل السياسي، وتمنحه قدرة حقيقية على الإقناع، حتّى لمن هم خارج بيئة المقاومة، إذا توافرت شروط الحدّ الأدنى من الانفتاح الذهني والاستعداد النفسي.
فعندما يقول قاسم إن السلاح ليس غاية بل وسيلة، وإن المقاومة ليست طرفًا عسكريًا منفلتًا، بل حارس للسيادة، فإنه يقدّم سردية متماسكة يمكن للدولة أن تتبنّّاها على المستوى الدولي من دون حرج، ويمكن للرأي العام أن يلتفّ حولها داخليًا من دون تخوّف.
إلى جانب ما سبق، وفّر الخطاب فرصة ثمينة لتعزيز الوحدة الداخلية في مواجهة محاولات الاستثمار الخارجي في الانقسام. فقد أشار بوضوح إلى متانة التحالفات الإستراتيجية للمقاومة داخل بيئتها، وإلى عمق التنسيق مع الرؤساء الثلاثة، بما يقطع الطريق على الرهانات.
وعليه، تصبح مناعة الجبهة الداخلية صامدة، لا بوصفها فقط سندًا للمقاومة، بل كركيزة للدولة نفسها. وهذه المناعة، التي تأسست وتراكمت عبر عقود، تشكّل اليوم كنزًا حقيقيًا يمكن للدولة أن تبني عليه مشروعًا سياديًا جامعًا، يعيد الثقة بالمؤسسات، إذا أحسنت توظيف هذا التماسك الوطني في مشروع سيادي مشترك.
خارجيًا، يطرح الخطاب معادلة جديدة تُمكّن لبنان من تحسين موقعه الإقليمي والدولي بدل أن يُنظر إليه دولة ضعيفة تستجدي الحماية، وتعيد تعريف لبنان، لا بوصفه ضحية دائمة للأزمات، بل كفاعل سياسي يمتلك أوراق قوة إستراتيجية. ومن هذا المنطلق، فإن الخيار الحقيقي المطروح أمام الدولة ليس بين المقاومة أو المجتمع الدولي، بل بين أن تبني عناصر قوتها الداخلية وتفاوض من موقع ندّي، أو أن تُفكّك آخر مصادر مناعتها لتدخل تحت وصاية جديدة.
بهذه القراءة، لا يبدو خطاب الشيخ قاسم مجرّد ردّ على مشروع التفاوض الأميركي ـ ال"إسرائيلي"، بل يرقى إلى مستوى عرض سياسي سيادي متكامل، يُعلي من شأن الدولة ويفتح أمامها نافذة نادرة للخروج من منطق المراوحة.
وهو يُقدّم المقاومة لا كعبء على الدولة، بل كعامل استقرار لها، يضع السلاح في خدمتها لا في مواجهتها، ويدعو إلى تفاهم وطني على إستراتيجية دفاعية جامعة، لا إلى فرض واقع بقوة السلاح أو تحت إملاءات الخارج، بما يعيد الاعتبار لفكرة الدولة نفسها: دولة قوية، سيدة، محصّنة، وقادرة.
في المحصلة، لا يطالب الخطاب بتفويض دائم، ولا يلغي الحاجة إلى نقاش وطني مفتوح، ولكنه بالمقابل لا يسمح باستبدال السيادة بالتبعية، ولا الأمن بالمساومة، ويعيد صياغة السؤال الوطني برمته: هل نريد دولة قوية تفاوض من موقع القوّة، أم تصفية آخر عناصر مناعتنا باسم "الواقعية السياسية"؟
لقد قدّم حزب الله فرصة حقيقية، وعلى الدولة أن تختار بين أن تكون شريكًا في بناء توازن جديد أو أن تظل رهينة لتوازنات مفروضة من الخارج، وبين المقاومة كقوة ردع وبين الانكشاف الأمني الكامل. القرار بيد الدولة، واللحظة لا تحتمل أي مماطلة.