مقالات

لا تزال الأوضاع في جنوب سورية تشهد توترًا كبيرًا في ظل عدم ضبط الصدامات بين البدو المدعومين من سلطة أبو محمد الجولاني وتركيا من جهة، وأهل جبل العرب الدروز الذين باتوا يتلقون دعمًا من "إسرائيل" من جهة أخرى. هذه الاشتباكات جاءت نتيجة فشل الترتيبات التي كان قد توصل إليها الجولاني في لقائه مع مسؤولين "إسرائيليين" خلال زيارتيه الأخيرتين لكل من الإمارات واذربيجان والتي كانت تقضي بدخول قوات الفصائل المدعومة من الجولاني إلى السويداء في مقابل اعترافه بالنفوذ "الإسرائيلي" في جنوب سورية.
فشل الترتيبات هذه كان ناجمًا بالدرجة الأولى عن عدم انضباطية العناصر الجولانية المعبأة أيديولوجيًا وفقًا لعقيدة ضيقة الأفق جعلتهم يرتكبون تجاوزات أدت إلى الاشتباكات بين هذه العناصر والشبان الدروز وتحولت إلى مواجهة كاملة بين الطرفين. لكن كانت هنالك أسباب أخرى تمثلت في أن القوتين اللتين ساهمتا بالإطاحة بالرئيس بشار الأسد وهما "إسرائيل" وتركيا تمتلكان رؤيتين مختلفتين لتوزع النفوذ في سورية والشكل الذي يجب أن يتخذه النظام السياسي في هذا البلد. ففي حين تصر تركيا على إبقاء سورية دولة مركزية موحدة ستكون حكمًا تحت النفوذ التركي بحكم الدالة التركية على الجولاني، فإن "إسرائيل" تسعى لتقسيم سورية على أساس كيانات طائفية تكون حكمًا امتدادًا للنفوذ "الإسرائيلي".
حتّى أن محاولة "إسرائيل" مد نفوذها في جنوب سورية تأتي في سياق إقامتها لممر داود الذي يربط "إسرائيل" بمنطقة شمال شرق سورية التي تسيطر عليها "قسد" التي تمتلك علاقات قوية مع "تل أبيب". وما يعزز توجه المجموعات غير السنية العربية للانضواء في هذا المشروع هو ممارساتها مع المجموعات الدينية الأخرى التي ترقى إلى الإبادة الجماعية.
هذه الأحداث ستكون لها تبعات بعيدة المدى على معادلة الجغرافيا السياسية في المشرق، وبشكل خاص على لبنان.
مواقف الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وإيران
تعتبر واشنطن أزمة السويداء فرصة لإضعاف النفوذ الإيراني، وبالتالي إضعاف حزب الله، من خلال تشجيع إعادة تشكيل النظام السوري بما يتماشى مع المصالح الغربية. وبينما تعلن الولايات المتحدة دعمها للاستقرار والإصلاح السياسي، فإنها تدعم بشكل غير مباشر الجهات التي تتحدى الفاعلين المرتبطين بإيران. كما تأمل واشنطن في أن تترسخ حكومة الشرع ضمن إطار معتدل لما بعد الأسد، وأن تحد من ارتباطها بطهران ودعمها لحركات المقاومة في لبنان، بل وأن تمارس ضغوطًا على لبنان بما يقلب التوازنات السياسية في هذا البلد في غير صالح حزب الله. من هنا فإن واشنطن متذبذبة بين دعم الأجندة التركية في سورية من جهة والأجندة "الإسرائيلية" من جهة أخرى.
وترى الرياض في ما يحدث في السويداء فرصة لإعادة ترسيخ النفوذ العربي السني في المشرق. ورغم ترحيبها بإضعاف موقع إيران وحزب الله، إلا أنها تدعم الجولاني في محاولة للحد من نفوذ "إسرائيل" وتركيا معًا وإيجاد موطىء قدم لها في سورية. أما أبو ظبي، ورغم أنها تظهر موقفًا مؤيدًا للرياض في ما يتعلق بأزمة السويداء، إلا أنها في حقيقة الأمر تدعم الموقف "الإسرائيلي"، ويتجلى هذا في رعايتها لمحادثات بين مسؤولين سوريين و"إسرائيليين" بالتوازي مع امتلاكها لقنوات اتّصال مع زعيم الدروز في الكيان الصهيوني الشيخ موفق طريف الذي يلعب صلة الوصل بين مكتب رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو وزعيم الدروز في جبل العرب الشيخ حكمت الهجري.
في المقابل، ترى طهران أن ما يجري في السويداء تهديد مباشر لمحور المقاومة. والجدير ذكره أن الجولاني أعلن عداءه لإيران حتّى قبل تسلمه السلطة في سورية وأرسل رسائل عدة لـ"الإسرائيليين" تعرب عن استعداده ليس فقط للسلام مع "إسرائيل" بل ايضًا لتشكيل جبهة موحدة ضدّ إيران. لذا فإن إيران ترى أن ما يحصل في جنوب سورية سيشكّل عقبة إضافية امام فرص تواصلها مع حلفائها بحال نجحت "إسرائيل" في مد نفوذها إلى جنوب سورية ورسخت حضورها هناك. وهذا يفسر الصمت الإيراني حتّى الآن والاكتفاء بالتصريحات البروتوكولية في هذا الشأن.
تداعيات محتملة على لبنان
يراقب دروز لبنان، عن كثب، ما يحصل في السويداء. وقد أعرب غالبية قادتهم ومن ضمنهم وليد جنبلاط وشيخ طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المنى عن معارضتهم لتوجه الهجري في الانضواء ضمن المشروع "الإسرائيلي"، داعين في الوقت نفسه الدولة السورية في ظل الجولاني إلى تحمل مسؤولياتها. وقد شكل هذا جسرًا لرأب الصدع مع القيادات السنية في لبنان التي باتت أقرب إلى توثيق عرى العلاقات مع سلطة الجولاني في دمشق. في نفس الوقت فإن الممارسات الوحشية التي ارتكبتها قوات الجولاني في السويداء جعلت غالبية الجمهور الدرزي يعيد حساباته ويدعم التمسك بسلاح حزب الله ليس فقط كضمانة في مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي"، بل أيضًا كضمانة في مواجهة احتمال تسلل عناصر "داعشية" من سورية إلى لبنان وخصوصًا إلى القرى الدرزية في البقاع الغربي. أما الزعامات السنية في لبنان، فيرون في صراع السويداء مؤشرًا على تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة. وهذا من شأنه أن يعزز نفوذهم في هذا البلد.
بالنسبة للمسيحيين اللبنانيين، خصوصًا المنضوين تحت راية "القوات اللبنانية" أو "الكتائب"، فإنهم يؤيدون الجولاني في ما يحصل في السويداء بحكم الدعم المالي والسياسي الذي يتلقونه من الرياض. وهم يعتبرون أن إضعاف دور حزب الله سيعيد رسم التوازنات السياسية في لبنان لصالحهم ويثبت صوابية مواقفهم المناهضة لدور الحزب الإقليمي، وقد يؤدي إلى تجدد الضغوط الدولية والمحلية للحد من سلاحه ونفوذه. لكن بنتيجة المشاهد المؤلمة التي تم نقلها من السويداء فإن مناصري سليمان فرنجية والتيار الوطني الحر وغيرهما من القوى المسيحية، بالإضافة إلى غالبية الجمهور المسيحيى، باتوا يرون في سلاح حزب الله ضمانًا لهم في مواجهة احتمال انتقال الصراع إلى داخل لبنان، خصوصًا بعد مظاهرات التأييد للجولاني التي خرجت في بعض مناطق شمال لبنان، وخصوصًا في طرابلس، ثاني أكبر مدينة لبنانية بعد بيروت.
تأثير ذلك على حزب لله
رغم الخطر الذي يشكله ما يحدث في السويداء على الجبهة السورية لحزب الله، إلا أن الحزب قد يحقق مكاسب تكتيكية على المدى القصير. فإذا اضطرّ الجولاني إلى الانكفاء إلى الداخل السوري لتسوية الأوضاع واحتواء الاضطرابات وتكوين تحالفات هشة، فلن يكون لديه الوقت أو الزخم السياسي لمواجهة حزب الله في لبنان، خصوصًا بناءً على طلب أميركي أو خليجي.
وقد يُترجم ذلك إلى ما يشبه اتفاق عدم اعتداء بين دمشق وحزب الله تمتنع فيه القيادة السورية الجديدة عن استفزاز الحزب.. وهذا سيسمح لحزب الله بإعادة ترسيخ موقعه في لبنان بعيدًا عن الضغوط الإقليمية الفورية، خصوصًا في ظل انقلاب المشهد اللبناني في غالبيته لصالحه.
ومع ذلك، إذا نجح الشرع في استقرار سورية وحقق اتفاقًا جديدًا لتقاسم السلطة يحظى بشرعية دولية، فقد تعود الضغوط من واشنطن والرياض و"تل أبيب" إلى الواجهة. إذ إن سورية المعاد تشكيلها قد تنخرط في اصطفافات إقليمية جديدة تضع حزب الله مجددًا في مرمى الاستهداف، خصوصًا إذا عادت الحملة الغربية للحد من النفوذ الإيراني إلى الزخم.