مقالات

لم يعد مهمًا مَن المحق ومَن المذنب في ما حصل ويحصل في السويداء. المجازر والجرائم والتنكيل التي حصلت هناك جعلت البحث عن المسؤول عن كلّ ذلك أمرًا ثانويًا، لما ارتُكِبَ من فظائع بربرية أعادتنا إلى عصور الكهوف والعصور الحجرية.
قطع رؤوس مع التكبير وإعدامات ميدانية وسبي وخطف نساء وأطفال، اشتباكات دامت ثلاثة عشر عامًا ابتدأت عام 2011 الهدف منها "إسقاط نظام طاغية والوصول إلى بلد ديموقراطي يصون الحريات"، وإذ بسورية الجديدة تصبح "تورا بورا" يسودها الإجرام والفوضى العارمة والحقد الطائفي والمذهبي والتنكيل بالأقليات وينتشر فيها مسلحون بشعرهم الطويل المتدلي المقزز وبالصراخ المتعصب القبلي، لتطل علينا بعدها حمامة السلام "إسرائيل" بطائراتها الحربية والمسيّرة وتستهدف الفصائل المسلحة التابعة للنظام السوري وتجبرها على التراجع والانسحاب إلى مسافة 70 كلم من الحدود الجنوبية، ولتقوم هذه الطائرات بقصف وزارة الدفاع السورية ومحيط قصر الشعب ولتعترف الصحف "الإسرائيلية" بأن هذه الطائرات قصفت 200 هدف في كافة أنحاء سورية لا علاقة لها بأحداث السويداء.
"إسرائيل" تستبيح سماء الدول العربية برضى هذه الدول أو رغمًا عنها وتقصف عاصمتين عربيتين، دمشق وبيروت، والعالم العربي في سباتٍ عميق، ظنًا منه أن الحرب ستبقى بعيدة عنه.
بعد توقف هذه المجازر بتدخل الأزرق كما بات يسمى، حُكي عن تنكيل من قبل دروز السويداء بحق بدو وعشائر هذه المنطقة الذين أُجبروا على النزوح. لتنتشر عبر كافة الدول المحيطة بسورية ما يسمّى بـ"الفزعة" التي تتداعى فيها العشائر لنصرة بدو السويداء، إذ تجمع آلاف المسلحين من هذه العشائر من كافة أنحاء سورية، ومن لبنان والأردن والسعودية، حتّى وصل أمر "الفزعة" إلى برلين في ألمانيا.
هذه "الفزعة" التي حرّكت آلافًا مؤلفة من المسلحين لنصرة بدو السويداء قابلتها فزعة "إسرائيل" لدروز السويداء وللأقليات في سورية. أما غزّةَ العزة فلا "فزعة" لها ولا من يحزنون، فهي لم تحرك على مدى عشرين شهرًا ضمير أي "فزعة" لنصرة أطفالها ونسائها. فـ"الفزعة" مخصصة فقط لتنفيس الأحقاد الطائفية والمذهبية فيما بينها، أما "الفزعة" ضدّ "إسرائيل" فهي غير واردة.
عادت المعارك إلى السويداء بعد وصول جحافل "الفزعة"، لنشاهد من جديد فنون الإجرام والبربرية والتنكيل ولنرى أشكالًا ملتحية مرعبة حاقدة لا تمت إلى شكل الإنسان بصلة.
إجرام وتنكيل متبادل بين "الفزعة" ودروز السويداء جعل أميركا وبعض الدول في المنطقة تتدخل لوقف حمام الدم، وليحكى عن اتفاق "إسرائيلي" سوري على وقف إطلاق النار، الأمر الذي لا يمكن أن يستقيم لأن "إسرائيل" أطلقت النار على سورية بينما سورية لم تطلق طلقة واحدة على "إسرائيل"، إلا إذا اعتبرت سورية أن دروز السويداء أصبحوا تابعين لـ"إسرائيل" أو اعتبرت "إسرائيل" ناطقة باسم دروز السويداء.
لا يمكن أن نغفل عن استنفار دروز لبنان وإغلاقهم الطريق الدولية في منطقة بحمدون والاعتداء على السيارات السورية المارة. كما لا يمكن إغفال استنفار أهل طرابلس مبدين رغبتهم بالذهاب للقتال إلى جانب النظام السوري، مع العلم أنه يوجد مليونا نازح سوري في لبنان، من الأولى أن يذهبوا هم للدفاع عن نظام الحكم الجديد، في وقت يحكى فيه عن سقوط قتيلين لبنانيين ذهبا للمشاركة في القتال في منطقة السويداء.
هنا نرى بني سيادة في لبنان وقد ابتلعوا ألسنتهم أيضًا ولم يعترضوا على تدخل فريق لبناني في حرب دائرة في بلد مجاور لناحية مبدئهم الذي لطالما نخروا دماغنا به عندما ذهبت المقاومة للقتال في سورية في بداية الأحداث فيها، هذا المبدأ الذي تحدث عن "حياد لبنان" عن الصراعات المحيطة في لبنان.
الآن نصل إلى النقطة الأهم في هذا المقال وهو السؤال الذي يجب أن نطرحه: ما المانع من انتقال الفتنة الحاصلة في سورية إلى لبنان؟.
رأينا حراكًا داخليًا لبنانيًا تمثل بزيارة رؤساء الوزراء السابقين لدارة الوزير وليد جنبلاط سعيًا لعدم انتقال هذه الفتنة إلى لبنان، واتصالات مكثّفة بين المفتي دريان وشيخ عقل الطائفة الدرزية للغرض نفسه.
وهنا لا بد أن نقول لأصحاب الرؤوس الحامية والذين لا زالوا يسعون للفتنة في الداخل اللبناني، إن الوضع الأمني في المنطقة أصبح خطيرًا جدًا وبالتالي سيكون أخطر في لبنان، إذ في حال انتقال الفتنة إلى الداخل اللبناني، لن يبقى وطن والنار ستأكل الأخضر واليابس.
فعلى كافة المسؤولين في لبنان التحلي بالوعي الكافي لدرء الفتنة عن بلدنا وعلى أصحاب الرؤوس المنتفخة التنبه لما يسعون إليه لأن ما يقومون به سيكون سببًا لخطرٍ وجوديٍ على الكيان اللبناني برمته.
طبعًا أصبح الضغط على الأجهزة الأمنية أكبر وعينها ستبقى ساهرة على تحركات خلايا نائمة تتربص لضرب السلم الأهلي، فالمطلوب منها الزيادة في التنسيق في ما بينها لتبقى حاميةً للاستقرار ولتتصدّى لأي فلتان أمني ممكن أن يحصل.
حمى الله لبنان مما يحاك لهذه المنطقة من فتن ومن صراعات ستمزقها وتجعلها كيانات متناحرة.