تحقيقات ومقابلات

حين تشتدُّ المعركة وتضيق الأرض، يولد الرجال الكبار من رحم الوفاء، ويعلو المجد على أكتافهم. محمد جميل داود لم يكن مجرَّد مجاهد، بل كان نذرًا على طريق العشق للأرض والعقيدة. اختار أن يكون في قلب المواجهة، رغم أن خدمته لم تكن في بلدته يحمر، لكنَّ حبَّه لها كان أقوى من كلِّ الاعتبارات.
في الخامس والعشرين من أيلول 2024، حمل قلبه الكبير، وتوجَّه بطمأنينة الموقنين نحو الضيعة التي احتضنت طفولته، كأنَّه كان يعلم أنَّ الأرض التي عشقها ستحتضنه شهيدًا، تمامًا كما احتضنها حارسًا ومقاتلًا حتَّى الرمق الأخير.
قصة محمد ليست مجرَّد حكاية استشهاد، بل فصل ناصع من بطولة نادرة، كتبها بشجاعةٍ وإيمان، ليبقى حيًّا في ذاكرة الوطن، حارسًا للكرامة، وصوتًا يعلو فوق دخان الحرب.. محمد جميل داود؛ الشهيد الذي أبى أن يُستشهد إلَّا في الأرض التي أحب.
دمعة الفرح الأولى في طريق الجهاد
في بلدة يحمر الجنوبية، وفي بيت تظلِّله القيم والمبادئ، وُلد محمد في 11 تشرين الثاني 2002، لتغرس فيه أمُّه هالة علَّيق منذ نعومة أظفاره عشق الأرض والكرامة. نشأ محمد بين صفوف الكشافة، صبيًّا طيِّبًا ومرشدًا نقيًّا، رافق "أحباب الله" مربِّيًا ورفيقًا، فصار مثالًا في التربية والالتزام.
على الصعيد المهني، اتَّجه نحو التصوير، وأبدع في مجاله حتَّى صار اسمه معروفًا في محيطه. لكنَّ عين محمَّد كانت دائمًا على دربٍ آخر، أسمى، أرفع، هو درب المقاومة. حلمه لم يكن وليد لحظة، بل أمنية نمت في قلبه منذ طفولته، حلم أن يكون مجاهدًا يحمل السلاح ويقف سدًّا منيعًا في وجه المعتدين.
في الثامنة عشرة، تحقق الحلم. انخرط محمد في صفوف المجاهدين، وفي اليوم الذي أُبلغ فيه بقبوله، انفجرت الفرحة في عينيه دموعًا؛ دموع لا تُنسى. تتذكَّر والدته ذلك اليوم وتقول: "لقد طار من الفرح، بكلِّ ما للكلمة من معنى.."؛ بدأت رحلته الجهادية بكلِّ عزم وإخلاص، ليغدو مجاهدًا متميِّزًا في ساحات الوغى، يشهد له كلُّ من عرفه.
سند العائلة وروحها الطيبة ارتقى شهيدًا وفاءً ليُحمر
لم يكن محمد داود شابًّا عاديًّا، كما تصفه شقيقته فاطمة. رغم عمره اليافع، حمل همَّ العائلة والمحيط، فكان خدومًا معطاءً لا يعرف التلكؤ ولا يتأخر في العطاء. خصَّص من راتبه جزءًا للفقراء دون أن يعلم به أحد، حتَّى كشف بعد استشهاده، لتتكشَّف صفحة من نُبله وسرِّ عطائه الصامت.
في كلِّ مكان حضر فيه، انتشر الدفء، خفَّة الظل، والضحكة الطيبة. عرفه الجميع بسنده وطيب معشره، وكان يجمع الأهل حوله أيام الإجازة، يملأ البيت بأحاديثه الجميلة كجمال روحه. لم يتأخر يومًا عن أحد، وصلة الرحم كانت دربه المضيء.
بنى محمد منزله المتواضع بحبٍّ، وزيَّنه بصور الشهداء والقادة. رسم تفاصيله بعناية، وخطَّ فيه حبَّه للإمام الرضا (ع)، حتَّى أنه أراد أن يسمي ولده باسمه، لكنَّه ارتحل قبل أن يرى طفله النور، والولد الصغير تبعه سريعًا نحو الملكوت، كأنَّ السماء أرادتهما معًا.
في 25 أيلول 2024، اتَّخذ محمد قراره بالتوجُّه إلى يحمر، رغم أن خدمته لم تكن هناك. قال لأمه دامع العينين: "ارضِ عنِّي يا أمي، أنا بدِّي روح ع الضيعة". مضى كما لو كان يعرف أن ساعة الوصال قد حانت. سعى نحوها ثابت الخطى، بشوق المجاهد الذي طال انتظاره للشهادة، فنالها بشرف وبأس، كما أراد دومًا، واستُشهد في 1 تشرين الثاني 2024 خلال غارة "إسرائيلية" في يحمر، محققًا أسمى أمانيه في الدفاع عن وطنه.
لحظة العروج..
فجر الأول من تشرين الثاني 2024، شهر مولده، وعلى وقع غارات عنيفة هزَّت يحمر، استفاقت العائلة على نبأ لطالما خالج قلبها دون أن تعترف به.. محمد نال الشهادة. رغم خبرته في درب الجهاد، إلَّا أنَّ رحيله فجَّر الوجع، ففراق مثله لا يمرُّ مرور الكرام، كما تقول شقيقته ديما: "فراقه نخز قلوبنا نخزًا.. سيبقى وجعه معنا حتَّى الرمق الأخير".
لكنَّ محمدًا لم يترك أهله دون زاد. أوصى بالتمسك بالنهج، بالاستعانة بأهل البيت (ع)، وترك لأخواته وزوجته عباءة زينب عنوانًا لخطِّه وثباته. زرع فيهم الإيمان بأن الشهادة ليست نهاية، بل بداية عهد جديد.. عهد الوفاء؛ تقول ديما: "عريس الأمس، صار اليوم شهيدًا خالدًا، وعهده سيبقى حيًّا في قلوب أفراد عائلته ومحبيه"، "سنسير على خطِّك يا محمد، وسنأخذ بثأرك مع القائم من آل محمد".
"أخ ما ولدته أمي.. وقطعة من قلبي"
لم يكن محمد جميل داود مجرَّد صديق في حياة مصطفى، بل أخٌ سكن القلب، ورفيق دربٍ من أول لحظة وعَيا فيها الدنيا وأسرارَها. بكلمات نابضة بالمحبَّة والوفاء، كتب مصطفى لرفيقه الشهيد؛ ذاك الذي رحل ببطولة وترك أثرًا لا يُمحى.
"محمد ما كان بس رفيقي.. كان قطعة من قلبي"، هكذا بدأ مصطفى حديثه عن الشهيد الذي عاش حياته رجلًا قبل أوانه. كانا يرسمان أحلامهما معًا، لكنَّ محمدًّا اختار درب الشهادة أوَّلًا، وسلكه بكل حبٍّ، تاركًا خلفه إرثًا من العزِّ والبطولة.
يقول مصطفى: "محمد علَّمني بصمته قبل كلامه، علَّمني أن الطيبة ليست ضعفًا، وأن العطاء قد يكون من القلب لا الجيب، ومحمد كان قلبه واسعًا كحبِّه للناس".
كان محمد الأمان في الضحكة، والعزم في النظرة، وحين غاب، ترك فراغًا لا يُملأ إلا بذكراه العطرة وصورته الحاضرة في كل تفصيل. يختم مصطفى كلامه بوعد: "رح نكمل الدرب يا محمد.. واسمك رح يبقى عنوانًا، وقيمك نور دربنا.. سلام لروحك، من أخيك قبل ما كون صديقك".
شهيد خطَّ وصيَّته في قلوب الأحياء
استشهاد محمد جميل داود في معركة "أولي البأس" يصفه صديقه محمد بأنه لم يكن نهاية، بل تتويجٌ لمسيرة مجاهدٍ استثنائي، ختم حياته بجهادٍ نقيٍّ والتزامٍ راسخ. في اللحظة التي فرَّ فيها الأمل، بقي محمد، وصعد إلى عليائه مجاهدًا يلاحق المجد، تاركًا الحزن مرًّا في قلوب من عرفوه، لكن ممزوجًا بفخرٍ يلامس السماء.
يقول صديقه: "صدى محمد أقوى من أي كلام، دروسه سكنت أرواح من عرفوه، وزرع فينا التزامًا لا يتزعزع بالوفاء والصدق والثبات".
محمد جميل داود لم يُستشهد فقط، بل أورثنا معنىً نقيًّا للحياة.. وأبقى قضيته حيَّة تنبض في كلِّ مَن قرَّر أن ينهض من بين الركام ويكمل الطريق بثقة وإيمان.