تحقيقات ومقابلات

في أحد الأيام ببداية حرب تموز 2006، أرسل سيد شهداء الأمة الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله رسالة مكتوبة الى رئيس مجلس النواب نبيه بري عبر المعاون السياسي للحزب الحاج حسين الخليل، جاء فيها: "يا أخ نبيه، كما تعاهدنا سابقًا قرارنا أن نكمل معًا (...) أنا والإخوان لدينا ثقة كبيرة بدولتك، وبقدرتك على إدارة الأمور، ونحن اتفقنا أنّ أمر المفاوضات وتفاصيلها لديك بالكامل، أنا شخصيًا أملي وثقتي بك كبيران، وأعرف أن هذه معركتك". بعد قراءته الرسالة، طلب الرئيس بري، وفق ما روى معاونه السياسي النائب علي حسن خليل قبل سنوات، طلب من الحاج حسين أن يُدوّن الآتي: "سلّم على سماحة السيد وقل له: أنا منذ اليوم الأول مش قاسم، أعلم أنّ هذه معركة مصير، ليس لنا فقط، لكل البلد، هي معركتنا جميعًا (...) بالموضوع السياسي، أشكر السيد، قل له اطمئن، نحن مش بس مش قاسمين، نحن واحد، كأنه موجود أساسًا من البداية، أعتبر نفسي هكذا (...) بالمختصر، نحن سوا ورح نضل هيك، وإن شاء الله سنلتقي بعد الحرب ونهنّي بعض، قل للسيد ما يهكل هم الجبهة السياسية".
رسالة السيد أعلاها تُبيّن مستوى الثقة الكبيرة التي أولاها للأخ الأكبر، كما كان يحب أن يصفه. وردّ الرئيس بري يُبيّن مستوى العلاقة الأخوية التي جمعت الطرفين. وعليه، أدار الرئيس بري مفاوضات حرب تموز على المستوى المحلي والدولي، أدارها بحنكة وبصيرة استراتيجية، تمامًا كمختلف المحطات التي تولى فيها المفاوضات. وليس جديدًا القول إنّ العدو يشهد للرئيس بري قبل الصديق لحنكته البرلمانية وذكائه التفاوضي، وفنّه في تدوير الزوايا دون التفريط بالحقوق. فهو المفاوض الذكي الذي يعرف متى يكون الحزم خيارًا، ومتى يستخدم الهدوء، ومتى يترك الباب مفتوحًا للأخذ والرد. وقد شكّلت محطة تموز 2006 ذروة دوره التفاوضي، حيث كان حريصًا على تأمين وحدة الموقف الداخلي وعدم تفجير الحكومة اللبنانية من جهة، وحماية لبنان من المؤامرات الخارجية والطروحات الخبيثة تحت عباءة الحلول من جهة ثانية.
وفي هذا الإطار، يستذكر عضو كتلة التنمية والتحرير النائب قاسم هاشم الدور الذي أدّاه الرئيس بري خلال حرب تموز، لافتًا الى أنّ المفاوض اللبناني لم يكن أقل صلابة من المقاوم في الميدان، حيث لعب رئيس مجلس النواب نبيه بري دورًا أساسيًا في إدارة المعركة السياسية، وقاد المقاومة السياسية، كما أطلق عليه الجميع. وفق قناعات هاشم، كان الرئيس بري خط دفاع أول في مواجهة كل الطروحات والأفكار التي كانت تحاول أن تستثمر في المفاوضات لدعم العدو في حينه. الرئيس بري كان واضحًا في ثباته وصلابته بما طرحه من أفكار ورؤى شكّلت ــ بلا شك ــ المواجهة الحقيقية لوضع حد للحرب التي شنّها العدو.
يُفصّل هاشم في توصيفه لجرأة الرئيس نبيه بري وصلابته، فيؤكد أن الجميع يشهد له بقيادته الحاسمة للمفاوضات، وبثبات موقفه الراسخ والدائم في الدفاع عن الثوابت والخيارات السياسية اللبنانية. وينطلق هذا الثبات، كما يقول هاشم، من حرص الرئيس بري على حماية سيادة لبنان وكرامته وحقوقه، وعلى تأكيد نهج المقاومة في ظل الظروف الدقيقة التي كانت تمرّ بها البلاد في تلك المرحلة. ويضيف أن هذا النهج شكّل الأساس الذي ارتكز عليه الموقف اللبناني في المفاوضات التي تولّى الرئيس بري قيادتها، إذ كان حريصًا كل الحرص على التأكيد أن لبنان لن يتنازل عن أي من ثوابته أو حقوقه، متمسكًا بسيادته الوطنية وقراراته المستقلة. وعلى الرغم من محاولات العدو "الإسرائيلي" ومن خلفه فرض الضغوط العسكرية والدبلوماسية، فإن جميعها باء بالفشل، ولم يتمكن العدو من اختراق موقف الرئيس بري أو زعزعته، ولا من النفاذ إلى أي ثغرة في خطابه السياسي الواضح والثابت.
يتوقّف هاشم عند الطروحات التي قدّمها الرئيس بري عبر العديد من المفاوضين الذين أقروا بصلابة مواقف عين التينة وعدم تخليها عن أي ورقة تُحقّق الإنجازات وتؤدي إلى انتصار لبنان في السياسة، كما في ساحات الحرب. يروي كيف كان الرئيس بري يقظًا جدًا لعدم تحقيق العدو مواقف متقدّمة في السياسة، بعد أن هُزم في الميدان. وهنا، يُشدّد هاشم على أنّ ما آلت إليه الأمور على المستوى الدبلوماسي كان موازيًا بشكل واضح لما استطاعت المقاومة أن تُحقّقه في الميدان، فكان الانتصار وطنيًا بامتياز في كافة الميادين، حتى أنّ لبنان استطاع، رغم كل ما أصابه من خراب ودمار أن يؤمّن بموازاة هذه الانتصارات، إعادة الإعمار. وهنا اكتملت الصورة من خلال هذه الصلابة وهذه المواقف التاريخية التي شهد لها الجميع، على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، شهدوا بأن المفاوض اللبناني استطاع في كل الأحوال أن ينجز الانتصارات التي لم يستطع فيها "الإسرائيلي" أن يحقق أي هدف، بعد محاولته الفاشلة بتسجيل نقطة بدل هزيمته في الميدان العسكري.
لا يتردّد هاشم في القول: "إنّ من حظ لبنان أن من يفاوض باسمه، ومن يقود الصعوبات والتحديات في هذا الزمن، هو الرئيس بري، صاحب التاريخ العريق في السياسة والدبلوماسية، وهو الذي أرسى قواعد ثابتة يعترف بها كل القادة البرلمانيين. ثبّت قواعد في الدبلوماسية البرلمانية، وجعلها متقدمة ولها مكانتها في الحياة السياسية الدولية، وليس فقط المحلية. هذا ما أقرّ به الجميع ويعترفون به". ولدى وصفه، ينتقي هاشم من الألقاب أدقها، فالرئيس بري متمرّس، وليس فقط محنّكًا، وله باع طويل في الحقل السياسي بعد التجارب الطويلة التي خاضها في كل حياة لبنان السياسية، منذ أن بدأ لحظاته الأولى، وواكب كل المراحل السياسية منذ الستينيات حتى هذه اللحظة. وطبعًا، هذا الأمر راكم لديه الكثير الكثير من التجارب والخبرات التي جمعها لحظة بلحظة، فاستطاع من خلال هذه المواصفات والعلاقات المفتوحة أن يراكم كل هذه الخبرة، انطلاقًا من ثوابت سياسية وخيارات وطنية وعربية وإسلامية، وحتى دولية، ما جعله يُفاوض بصلابة ودبلوماسية حكيمة.
بناء على ما تقدّم، يقول هاشم، تمكّن الرئيس بري من خلال هذا الثبات، وتمسكه بالحق، وبكل ما يحفظ لبنان ويصونه ويحميه في أحلك الظروف، أن يصبح اليوم أبًا سياسيًا دبلوماسيًا لهذا الوطن، بكل ما يملكه من جرأة الموقف، وصلابة التمسك بالحق، أيًّا يكن المفاوض، ومهما علا مكانةً. يبقى هو صاحب الموقف الرصين والحكيم، لأنه آمن أن الحق هو المنتصر، وأن الخيارات والثوابت والكرامة لا يمكن إلا أن تُحفَظ بالتمسك بها، مهما كان الجبروت، ومهما كانت قوة الآخر. كان يؤمن أن الحق هو المنتصر دائمًا، مهما كانت القوة التي يحتمي بها الآخرون".