مقالات

في أعقاب كل مواجهة عسكرية تشنها "إسرائيل"، سواء على لبنان أم سواه، لا ينتهي المشهد بانتهاء العمليات القتالية، بل يبدأ طور جديد تتحرك فيه الولايات المتحدة بمرونة لملء الفراغ الذي تتركه نتائج الحرب، حاسمة أو عالقة. وفي السياق اللبناني، يتكرّر هذا النمط بشكل يكاد يصبح قاعدة؛ فبعد كل جولة فاشلة لفرض الشروط بالقوة، تبادر واشنطن إلى إطلاق مسار سياسي موازٍ، لا لإنتاج تسوية حقيقية، بل لإعادة تشكيل البيئة الداخلية وفقًا لمقاييس جديدة، تُراعي ميزان القوى الذي لم تتمكّن "إسرائيل" من تثبيته ميدانيًا.
زيارة المبعوث الأميركي "توم برّاك" إلى بيروت، في هذا الإطار، لا يمكن عزلها عن هذا النمط الأميركي المتكرر. إذ لا تأتي في سياق وساطة نزيهة أو مقاربة متوازنة، هي تنتمي إلى ما يمكن وصفه بـ"الإدارة السياسية لما بعد الحرب"، حيث تتحرك واشنطن قوةً منظمةً تسعى إلى تصفية ما تبقى من عناصر التوازن الداخلي المناهضة للهيمنة، وعلى رأسها سلاح المقاومة. هذه ليست دبلوماسية تقليدية، هي وجه جديد للحرب، يُدار بأدوات الضغط السياسي والاقتصادي والإعلامي.
من إدارة النتائج إلى هندسة التوازنات
تدرك واشنطن جيدًا أن الحروب لا تُحسم دائمًا في الميدان، وأن المعركة على المعنى السياسي للصراع قد تكون أكثر حساسية من المعركة على الأرض. ولذلك، تتحول الدبلوماسية الأميركية، في حالات الفشل الإسرائيلي أو غياب الحسم، إلى قناة لاستثمار ما أمكن من مخرجات الحرب. وهنا؛ لا يعود الهدف هو وقف النار أو تهدئة التوترات، إنما إعادة ضبط التوازن الداخلي للدولة المستهدفة بما يضمن تحييد الفواعل المستقلة، وتدجين القرار السياسي داخل أطر التبعية الإقليمية والدولية.
يأتي "برّاك" محمّلًا بخطاب موجه إلى الدولة اللبنانية والرأي العام معًا، وبيئة المقاومة تحديدًا. إذ بدل أن يُطرَح السلاح بصفته جزءًا من معادلة الأمن الوطني، يُعاد تعريفه بأنه أزمة داخلية، وكأن التهديد لا يأتي من الخارج، بل من الداخل نفسه. وتُقدَّم الدولة كيانًا ناقص السيادة ما لم تلتزم بالكامل بإملاءات "الشرعية الدولية"، والتي تتحوّل هنا إلى أداة ضغط مشروطة لا إلى معيار موضوعي.
خطاب السيادة.. بين التفريغ والتوظيف
من اللافت أن الخطاب الأميركي، في هذه المرحلة، يُكثِر من استخدام مفاهيم مثل "الدولة" و"الإصلاح" و"السيادة". لكن عند التمحيص، نجد أن هذه المفاهيم تُستخدم لإفراغها من معناها الفعلي. الدولة تُختزل إلى جهاز تنفيذي تنحصر مهمته في ضبط الداخل وفقًا لشروط الخارج. أما السيادة، فتصبح مشروطة بمقدار انسجامها مع التوجهات الأميركية والإسرائيلية، ويُعاد تعريفها بوصفها امتيازًا يُمنح لاحقًا يُمارَس.
بهذا المعنى، تُطرَح حصرية السلاح بيد الدولة كونه مسألة مبدئية فقط عندما يُقصَد بها سلاح المقاومة. أما السلاح غير الشرعي الآخر، الاقتصادي والمالي والدبلوماسي، الذي يمارَس من الخارج لتقييد القرار اللبناني، فلا يُناقَش. وهكذا، تنقلب مفاهيم الاستقلال إلى أدوات للضغط، ويُستثمر العنوان السيادي من أجل تقويض البنية الدفاعية التي حالت دون انهيار الدولة في أكثر من محطة.
من تطويق المقاومة إلى تفكيكها رمزيًا
المشهد لا يقتصر على محاصرة المقاومة عسكريًا، يتسع ليشمل محاولات نزع شرعيتها الرمزية داخل بيئتها. والمطلوب تجريدها من سلاحها ومعناها ودورها ومشروعها السياسي. يجري تقديمها سببًا للأزمة لا محاميًا من الانهيار، وأنها عبء على الدولة لا جزءًا من معادلتها الدفاعية. ويتم ذلك في خطاب مزدوج: خارجي يربط كل دعم للبنان بشرط "نزع السلاح"، وداخلي يحثّ اللبنانيين على القبول بالحلول الأميركية تحت ضغط الحاجة الاقتصادية والانهيار المؤسساتي.
هذا الأسلوب يتقاطع مع ما تُعرّفه بعض المدارس النقدية أنه "هندسة سياسية قسرية"، حيث تُستكمَل الحرب بأدوات ناعمة تُوظَّف لإعادة رسم المشهد السياسي من دون قصف أو اجتياح. لكن أثرها أعمق وأطول أمدًا، لأنها تستهدف مفاصل الدولة وعناصر الشرعية وموازين القوة داخل المجتمع نفسه.
السياق الاستراتيجي وإدارة الفشل لا منع الحرب
ليست هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها واشنطن أدواتها السياسية لتعويض "إسرائيل" عن فشل عسكري؛ فبعد كل حرب غير محسومة، تبدأ مرحلة جديدة من الضغوط تتجاوز العناوين العسكرية، وتتسلل إلى بنية الدولة والاقتصاد والتمثيل السياسي. والمقصود إلى جانب منع الحرب المقبلة منع القدرة على خوضها من الأساس، عبر تجريد لبنان من أي رافعة دفاعية مستقلة، سواء أكانت سياسية أم مادية أم رمزية.
هكذا، يتكرر النمط: في حال فوز "إسرائيل"، تكون واشنطن ضامنة لترسيخ النصر؛ وفي حال تعثرها تصبح مهندسة لإعادة ضبط الإقليم. وفي الحالين، تُفرَض التوازنات من خارج الحدود، وتُترَك الدول أمام خيارين: إما الانصياع الكامل أو الدخول في دوامة عقوبات واتهامات وإقصاء.
زيارة "برّاك" إلى بيروت لم تكن مبادرة دبلوماسية عادية، هي جزء من سياسة مستمرة تقوم على استثمار نتائج الحروب وتحويلها إلى مسارات سياسية تُدار بأدوات ضغط لا تقل أثرًا عن العمليات العسكرية. وهي تُعبّر عن منطق أميركي راسخ: أن تكون الدولة قابلة لإعادة التشكيل كلما تطلّبت مصالح "إسرائيل" ذلك، وأن تتحول المقاومة من عامل توازن إلى عبء يجب التخلص منه، ليس فقط عبر الحرب، بل بإعادة تعريفها في الوعي العام.
أمام هذا الواقع، لا تكفي الشعارات ولا التحفظات؛ المطلوب إعادة طرح الأسئلة الكبرى عن معنى السيادة ومفهوم الإصلاح وحدود الشراكة الدولية. والمعركة اليوم ليست فقط على الأرض، هي على المعاني الدقيقة للدولة والمقاومة والسلام. ومن دون هذه المعركة الفكرية والسياسية، سيبقى لبنان عرضة لكل موجة إعادة ترتيب تُقرَّر في الخارج، وتُنفَّذ بأيدي الداخل.