خاص العهد

على مدى أربعة أيام، تحوّلت باحة عاشوراء في الضاحية الجنوبية لبيروت إلى مساحة حيّة للاقتصاد المنتج، ضمن فعالية "مهرجانات الصيف" التي نظّمتها جمعية "الشجرة الطيبة"، وافتُتحت اليوم برعاية وزير العمل محمد حيدر. وقد شهد المعرض حضورًا شعبيًّا لافتًا، حيث التقى الزائرون بأصحاب المنتجات مباشرة، دون وساطة أو زيف تسويقي، فكانت الكلمة الأولى والأخيرة للإبداع المحلي والعمل اليدوي.
من البقاع إلى الجنوب، جُمعت خيرات الأرض وثمار المواسم، وصُنعت بعناية في البيوت، ثم جيء بها إلى الضاحية؛ محمّلةً بما هو أكثر من المأكولات والمونة، جيء بها محمّلةً بأمل جيلٍ يؤمن بأن النهوض يبدأ من اليد التي تزرع وتصنع.
اليد تصنع ما لا تصنعه المعامل
جال موقع العهد الإخباري في أروقة المعرض الذي تنوّعت أجنحته بين المنتجات الغذائية البلدية، والصناعات الحرفية، والمونة المنزلية، ومستحضرات العناية بالجسم، والمنتجات البيئية. ما يميّز هذا السوق، كما يوضح منظّموه، أن كل قطعة معروضة فيه هي من إنتاج فردي، أو منزلي، أو عائلي، ما يمنحها خصوصية عالية من حيث الجودة، والهوية، والاهتمام بالتفاصيل.
وفي تصريح لموقع العهد، قال منسّق المعرض ربيع دياب: "الفكرة الجوهرية لهذا السوق أنه مساحة لا تبيع المنتجات فحسب، بل تكرّم الجهد الإنساني الكامن خلف كل قطعة. نحن لا نعرض سلعًا صامتة، بل نحكي قصصًا حيّة عن نساء ورجال أخلصوا للعمل، ورفضوا أن يكونوا مجرّد مستهلكين في عالم تجاري مسعور. في هذا المعرض، تلتقي روح الإنتاج بروح المقاومة؛ لأن الاقتصاد الحقيقي لا ينفصل عن السيادة الوطنية."
وأضاف: "المعرض صُمّم ليكون نموذجًا تطبيقيًّا لفكرة الاقتصاد البديل، أو ما يمكن تسميته بالاقتصاد المقاوم. لا نعني بذلك فقط الاكتفاء الذاتي، بل أيضًا كسر حلقة التبعية الاقتصادية التي تُفرض علينا سياسيًّا وثقافيًّا. أن تصنع مونة بيتك بيديك، أو أن تنتج صابونك من زيت زيتون أرضك، أو أن تبتكر بيديك لعبة لابنك بدل استيرادها، هو فعل سياسي بامتياز. نحن هنا نُعيد بناء الثقة بين المنتج والمستهلك، ونمنح القيمة للعمل الفردي والأُسَري، مقابل الانفصال البارد الذي تفرضه الأسواق الكبرى."
وأشار إلى أن "السوق ليس فقط لأصحاب المشاريع المتقدمة؛ بعض المشاركين هم في بداياتهم، ومع ذلك منحناهم الفرصة ليعرضوا، ويتلقّوا ملاحظات الزبائن، ويكتسبوا الثقة. نراهن على هذا النوع من التفاعل المباشر؛ لأنه يُنتج تطورًا حقيقيًا، وليس تكرارًا لما هو موجود. هدفنا أن يتعزّز هذا السوق يومًا بعد آخر، ليصبح فضاءً دائمًا، لا مناسبة مؤقتة، وأن يشكّل نواة لحركة إنتاجية محلية مستقلة عن الاحتكار والربحية المفرطة."
مونة بلدية.. وهوية وطنية
عند أول جناح، تصادفك رائحة الزعتر الأخضر والكشك المجفّف، وأكياس ورق العنب التي جُمعت بعناية من كروم الجنوب، وصفوف من المربّيات، ودبس الرمّان، ودبس التين، وأصناف من اللبنة المكبوسة، والجبن البلدي، والزيتون المصبّر.
عدد من السيدات المشاركات في جناح المونة أوضحن في حديثهن لموقعنا: "كل ما تراه هنا هو من صنع يدَي ويدَي عائلتي. لا شيء جاهز أو مستورد. نحن نعود إلى الأصل، إلى ما كانت تفعله أمهاتنا وجداتنا، ونعيده إلى المائدة بطريقة حديثة، ولكن بروح الماضي."
الحرف اليدوية: حكايات تُطرّز بالخيط والإبرة
وفي ركن آخر من المعرض، تتناثر منتجات الكروشيه المشغولة بدقة، من سلال القش إلى أكياس الهدايا اليدوية، والدمى المصنوعة من الخيوط الملونة. تقول فاطمة جابر، وهي شابة شاركت في المعرض: "منذ أن كان عمري 12 سنة بدأت العمل في الكروشيه. واليوم، وبفضل هذه المعارض، أصبح لي مشروع خاص. لم أعد فقط أبيع، بل أطمح إلى التوسع. الناس يشترون من قلبي؛ لأني أضع فيه تعب سنين وأحلامي كلّها."
أما إحدى الشابات المبتدئات فتقول: "أنا ما زلت في بداياتي، ولكن هذا المعرض منحني دافعًا كبيرًا. الإقبال ممتاز، والناس يُقدّرون الشغل اليدوي. أنا هنا لأعرض، لا لأربح فقط، بل لأطوّر نفسي وأبني مشروعًا حقيقيًّا بمرور الوقت."
ومن أبرز الزوايا التي شهدت تفاعلًا مميزًا من الزوار، كانت زاوية الصناعات المشتقّة من زيت الزيتون الطبيعي: الصابون البلدي، زيوت الشعر، كريمات التجميل، ومراهم علاجية طبيعية. وتوضح إحدى العارضات: "نحن نستخرج زيت الزيتون من حقولنا، ثم نستخدمه لصناعة منتجات صحية وآمنة، تغني عن تلك الكيميائية التي نشتريها من الصيدليات. هذا جزء من مشروع توعوي أيضًا: أن نعلّم الناس العودة إلى الطبيعة، إلى ما نثق به، إلى ما نصنعه نحن."
انطباعات الزوار: "منتجات تشبه بيوتنا"
في اليوم الأول من المعرض، سُجّل إقبال شعبي كثيف، إذ توافد الزوار من مختلف مناطق الضاحية وبيروت والجنوب، وجالوا بين الأجنحة معبّرين عن إعجابهم بنوعية المعروضات. يقول أحد الزوار: "كل ما تحتاجه الأسرة اللبنانية موجود هنا: من المونة إلى الهدايا إلى المواد التجميلية. والأهم أني أعرف من أين جاءت هذه المنتجات، ومن صنعها. لا ماركات تجارية، بل بشر حقيقيون تعبوا ليقدّموا لنا ما نأكله ونستخدمه بثقة."
مبادرة بيع الكتب تعزز روح التكافل الاجتماعي
وفي إحدى زوايا المعرض، اتّخذ الشاب عبد الرضا حلال من رفوف الكتب ساحةً لعمل خيري، حيث عرض مجموعة من المؤلفات والكتب المتنوعة بأسعار رمزية، على أن يعود ريعها بالكامل لدعم العائلات المحتاجة. بمبادرته هذه، يضيف حلال بُعدًا إنسانيًا وثقافيًا إلى السوق، جامعًا بين الكلمة والموقف، وبين المعرفة والعمل الصالح، في مشهدٍ يُجسّد قيم العطاء والمقاومة الاجتماعية بأبهى صورها.
ما بعد المعرض.. هو ما يريده القائمون
عادل أحمد، أحد منسقي المهرجان، شدّد في حديثه لـ"العهد" على أن الفكرة لا تنتهي بانتهاء المعرض، بل الهدف أن تتحوّل هذه المبادرة إلى سوق دائم، أو على الأقل إلى فعالية دورية، تربط بين المنتج والمستهلك، وتُبقي على هذا الخط المباشر الذي يقوّي ثقة الناس ببعضهم، ويعزّز اقتصادهم المحلي، ويحدّ من الاستيراد والاعتماد على الخارج.
ورأى في ختام حديثه أن هذا المهرجان هو فعل ثقافي واقتصادي، يعيد تعريف العلاقة بين الناس وأرضهم، وبين المرأة ومطبخها، وبين الشباب وأحلامهم الصغيرة التي تكبر شيئًا فشيئًا بالخيط والزيت والزهر. إنه السوق الذي لا يبيع البضاعة فحسب، بل يبيع الأمل، ويزرع الكرامة، ويقول لكل منتِج: "يدك هي سلاحك، لا تتركها فارغة."