مقالات

مجدَّداً يتكرَّر المشهد السياسي المأزوم في لبنان مستعيداً نسخة أوائل الثمانينيَّات، حيث عاشت المنطقة آنذاك مخاض الخيارات الصعبة، وشكَّل العام 1982 محطة فاصلة حملت معها مجموعة من العناصر التي دخلت في تشكيل خارطة التحوُّلات الداخلية والخارجية، ويبدو أن المنطقة اليوم تتحضَّر لتواجه السيناريو ذاته مع بقاء الجهات والأطراف على حالها في هويتها السياسية وأهدافها؛ إن لجهة الإطباق الأميركي على مفاصل الدولة ومؤسساتها وقرارها السياسي، أو لجهة تسويق الاتجاهات التقسيمية المبنية على منطلقات مذهبية وطائفية، والهدف الأساسي تحويل لبنان إلى محميَّة "إسرائيلية" مع ما يفترضه تحقيق هذا الهدف من سعي لإزالة أي عقبات أمامه، وعلى رأسها نزع سلاح المقاومة.
سبق أن اقترب لبنان من حافة الانزلاق المصيري قبيل الاجتياح "الإسرائيلي" وخلاله وما بعده، حيث كان الهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية آنذاك كمقدِّمة لتشكيل النظام اللبناني الرسمي بهوية "إسرائيلية"، ولعب الرئيس الأميركي رونالد ريغان عبر مندوبه اللبناني الأصل فيليب حبيب (كما هي الحال مع مندوب دونالد ترامب اليوم) دوراً في هندسة ما سمِّي بالعهد اللبناني الجديد تحت الهيمنة "الإسرائيلية"، وشهدت تلك المرحلة سيلاً من التهديدات من الداخل والخارج بأن لبنان قد يواجه خطر الزوال والاختفاء عن الخارطة ما لم تبادر الدولة إلى نزع السلاح الفلسطيني وترحيل مقاتلي منظمة التحرير.. ومع الأسف فإن السعودية هي التي تكفَّلت بمهمّة تنسيق وتمويل ودعم عملية ترحيل المقاتلين الفلسطينيين إلى الشتات.
قبل ستة أشهر من اجتياح حزيران، وبالتحديد في 4 كانون الثاني أعلن بيان لحزب "الكتائب" تلاه النائب أمين الجميل ومما جاء فيه: "..إن ۱۹۸۲ ستكون سنة القرارات المصيرية، باعتبار أن لبنان والمنطقة مقبلان على مرحلة تغيير نوعي في المصير السياسي"، وفي آذار عبَّر وزير حرب العدو آرييل شارون عن التغيير المقصود، فأعلن أن "هدف الاجتياح الإسرائيلي المقبل هو تحقيق حل للأزمة اللبنانية على أساس إقامة حكومة شرعية تسعى إلى السلام معنا". بالتزامن مع ذلك أعطى بشير الجميل الإشارة للبدء بالاستعدادات العسكرية والتدريبات وتعبئة العناصر مهدِّداً باتخاذ "قرار مهم وخطير"، أعقبه بتصعيد ميداني على جبهتي صنين في الجبل والبترون - الكورة في الشمال.
سرعان ما بدأت خطوات "التغيير النوعي" تتحقَّق بالاجتياح "الإسرائيلي" للبنان بمباركة أميركية وصمت عربي ودولي، ووسَّع العدو دائرة توغلاته من مسافة 40 كيلومتراً عن الحدود حتى وصل إلى بيروت، فلم يكن الهدف "إبعاد الخطر الفلسطيني" فحسب بل أيضاً خلق أمر واقع أمني – سياسي جديد يقود إلى دعم بشير الجميل وإيصاله إلى سدَّة رئاسة الجمهورية اللبنانية وفق ما خلص إليه اجتماع ضم إلى رئيس حكومة العدو مناحيم بيغن كلًّا من حبيب ووزير الحرب آرييل شارون ووزير الخارجية إسحق شامير، وأكَّد ذلك السفير "الإسرائيلي" في ألمانيا الغربية إسحق بن آري بقوله: إن "الجيش الإسرائيلي دخل إلى لبنان بطلب من جهات معينة فيه.. القوات المهاجمة تهدف إلى احتلال قسم من لبنان وإعطاء الرئاسة لعزيزنا الشيخ بيار الجميل".
كأن التاريخ يعيد نفسه، حيث نشهد اليوم لوحة المواقف ذاتها في ظل سقوط شبه كامل، حتى أن بعض القوى السياسية التي كانت حتى الأمس القريب تنادي بالمقاومة وخيارها آثرت عدم التورُّط في الاصطفاف السياسي بما يغضب واشنطن و"تل أبيب"، وهذا ما يراهن عليه العدو الذي يرى أن انفضاض حلفاء حزب الله من حوله يجعله يمرُّ بواحدة من أصعب فتراته على الإطلاق" بحسب الفهم "الإسرائيلي"، هذا في حين يتولَّى سمير جعجع مهمَّة "التبشير" بالعهد "الإسرائيلي" الجديد وتنصيب نفسه مقرِّراً عن الدولة عبر تحديده مهلة زمنية أقصاها ثلاثة أشهر لنزع سلاح حزب الله، وإلا فإن "البلد سيكون مكشوفًا أمام كل الاحتمالات.. أي أن يبقى في الحد الأدنى عرضة للضربات "الإسرائيلية"، وفي الحد الأقصى أمام موجة عنف جديدة أو حرب "إسرائيلية جديدة".
هذا التهويل لم يبادر إليه مسؤولو العدو أنفسهم بالمستوى الذي يتحمَّس له من في الداخل اللبناني، ذلك أن هؤلاء يعلمون أن ما كان مقدوراً عليه في حال منظمة التحرير في كنف المظلة العربية لا ينطبق على حال حزب الله المتجذِّر في لبنانيَّته والمكتسب شرعيته من انتمائه الوطني والمعبِّر بمقاومته وحضوره الاجتماعي وأدائه السياسي عن شريحة كبيرة في المجتمع اللبناني، ليس فقط على مستوى الشيعة بل أيضاً على مستوى باقي الطوائف والأحزاب التي تنضوي في نهج المقاومة سبيلاً أثبت نجاعته في تحرير الأرض وحفظ السيادة والاستقلال الحقيقيَّين. ولئن ألقى قادة منظمة التحرير السلاح لصالح التسويات بفعل الانهزام العسكري والضغوط الغربية والتخلِّي العربي، فإن المقاومة في لبنان قد استخلصت العبر البالغة لتقدير عواقب تسليم السلاح دون تحقيق الأهداف وتحصيل ضمانات، وأقلّها وضع الرقاب تحت المقصلة الأمريكية – "الإسرائيلية".
لا يقتصر التهويل والاستقواء بـ"إسرائيل" على الجانب العسكري، حيث تربط جماعات "التطبيل السياسي" إعادة إعمار ما دمَّرته الحرب "الإسرائيلية" ورفع الحصار المالي والاقتصادي العربي والأميركي عن لبنان بنزع سلاح المقاومة، وهو ما يذكِّر بالحصار الذي فرضته قوات الاحتلال على ما كان يُعرف بـ "بيروت الغربية"، ومنع قوافل التموين من الدخول إليها ما أدى إلى استفحال الأزمة المعيشية وارتفاع أسعار المواد الغذائية، فضلاً عن اشتداد أزمة الوقود والمحروقات.. آنذاك صرَّح عضو المكتب السياسي لحزب "الكتائب" كريم بقرادوني لإذاعة فرنسا (فرانس آنتير) أنه ".. إذا وجد فلسطيني واحد مسلَّح في لبنان، فإن ذلك يعني أنه ما من دولار أو فرنك سيدخل البلاد، بل لن يكون هناك لبنان واحد، وإنما لبنان ممزَّق".
هكذا يروِّج دعاة السيادة اليوم لوضع لبنان تحت حكم "إسرائيل"؛ مفتقداً لأي من مقوِّمات المواجهة والصمود، وهم يعلمون أن خطابهم هذا سوف يدخل البلد في نفق التشرذم من جديد، فضلاً عن إطلاق يد العدو في ارتكاب المجازر بحق أي فئة من الشعب اللبناني ترفض الانصياع والاستسلام، ولنا في مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها الاحتلال والميليشيات اللبنانية المتحالفة معه عقب اغتيال بشير الجميل نموذجاً عن المستقبل الذي ينتظر لبنان، على الرغم من أن مصادر الكونغرس الأميركي قالت آنذاك: إن "الجميل أبلغ مساعديه قبل مقتله بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن أذلَّه خلال لقائهما السري في مستعمرة نهاريا بعد قليل من انتخابه رئيساً وعامله كخادم".. فهل يقبل السياديون على أنفسهم أن يكونوا خدماً لأمريكا و"إسرائيل"!؟
كأن التاريخ يعيد نفسه، ولعلَّ جماعات التطبيل أخطأت في قراءة مواقف قيادة المقاومة الملتزمة باتفاق وقف إطلاق النار تلافياً لتعريض لبنان لحرب "إسرائيلية" جديدة، ولكن المعادلة اليوم مختلفة عمَّا مضى في قاموس المقاومة وشعبها وبيئتها ومناصريها، فإن السلاح الذي أخرج المحتل "الإسرائيلي" وحرَّر الأرض في العام 2000 وحقق الانتصارات بأيدي المقاومين وكسر الحصار الأميركي المفروض على لبنان لن يتأثر بضغط من هنا أو بحملة ترويع من هناك، ومن عمل على تحصين لبنان من المخاطر، ودافع عنه في وجه التهديدات المحدقة به يعلم حجم مسؤوليته الكبيرة الممتدة على مساحة الوطن وحدوده الشاملة من الجهات الأربع، ويُتقن اتخاذ القرار المناسب بما فيه مصلحة لبنان واللبنانيين، ولكي لا يكون خادماً بل سيِّداً وحراً ومستقلاً.