مقالات

منذ نحو 22 شهرًا من الحرب "الإسرائيلية" المستمرة على غزة، تتراكم التطورات السياسية والعسكرية لتكشف عن مأزق عميق ومعقّد لا يبدو أن أطرافه يملكون خطة واقعية للخروج منه. وبينما تتحول المبادرات السياسية إلى تهديدات مفتوحة، وتتعاظم الخلافات داخل بنية القرار الإسرائيلي، يتقدّم قطاع غزة بثبات إلى قلب الحسابات الإقليمية والدولية، لا كمساحة جغرافية تُدار، بل كميدان مقاومة مُحرج لقيادة العدو ولأنظمة التطبيع في ضوء صموده. ويتّضح أن الحرب لم تعد فقط معركة بين "إسرائيل" وحماس، بل بين رؤية استعمارية متطرفة ورغبة فلسطينية بالبقاء السياسي والإنساني.
مقترح "الاستسلام" الأميركي-"الإسرائيلي"
جاء المقترح الأميركي-"الإسرائيلي" الأخير بمثابة تتويج للعقلية التي تدير الحرب، لا كأداة لحل سياسي، بل كتهديد محسوب بلغة شروط المنتصر: نزع سلاح المقاومة، الإفراج الكامل عن الأسرى، وقبول إدارة دولية بقيادة أميركية لغزّة. هذا المقترح لا يضع أي أساس لسلام، بل يحمل توقيعًا مسبقًا على استسلام غير مشروط من حماس، وهو ما يُدركه صانعوه أنفسهم، ولذلك جرى تسويقه مقرونًا بمهلة وتهديد: "الرفض يعني عملية عسكرية واسعة النطاق".
غير أن المعضلة ليست فقط في طبيعة المقترح، بل في لحظة طرحه. فـ"إسرائيل" التي تدّعي أنها حققت معظم أهدافها العسكرية، يحذر جيشها من أي قرار باجتياح غزّة لأسباب عديدة منها ما يتعلق بإنهاك هذا الجيش والخسائر المتوقعة والخطر على حياة الأسرى، وغموض مرحلة ما بعد هذه الخطوة، فيما تصرّ القيادة السياسية على المضيّ في خطاب الحرب وتجاهل كلّ هذه الاعتبارات.
في المقابل، ترفض حماس الشروط المذلة، ولا تزال تُمسك بأوراق قوة، خاصة وأنه لا يوجد خيار بديل أمام المقاومة وسكان غزّة سوى المقاومة من أجل البقاء وإحباط أهداف العدوّ الإستراتيجية.
نهاية "الصفقات الجزئية".. العودة إلى نقطة الصفر
القرار "الإسرائيلي" بإلغاء نموذج "الصفقات الجزئية" يعيد مفاوضات الأسرى إلى نقطة البداية، لكنّه يعكس في العمق فقدان الإستراتيجية لا وضوحها. فالانتقال إلى صفقة شاملة، بشروط تعجيزية (نفي القادة، نزع السلاح)، لا يعكس استعدادًا للمرونة، بل رغبة في نسف مسار المفاوضات مقابل الحفاظ على واجهة داخلية سياسية متماسكة. ويُعد هذا التحول استجابة لضغوط من اليمين المتطرّف، وعلى رأسه سموتريتش، الذي أعلن بصراحة أن الصفقة الوحيدة المقبولة هي استسلام كامل لحماس، وإعادة المختطفين دون مقابل.
لكن هذه السياسة تصطدم بالواقع: لا اختراق سياسي، ولا انتصار ميداني، ولا صفقة، بل وضع متأزم بلا أفق. والمفارقة أن قادة الجيش "الإسرائيلي" أنفسهم بدأوا يصرّحون بأن عملية "عربات جدعون" قد استُنفدت أغراضها، وأن الاستمرار بها يُثقل الجيش دون طائل، مع ارتفاع أعداد المنتحرين من الجنود، وتراجع انضباطهم وتعبهم.
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "معاريف" "الإسرائيلية" عن تصاعد التوتّر داخل المؤسسة الأمنية، في ظل رفض نتنياهو عقد جلسة لمجلس الوزراء لمناقشة مستقبل العمليات العسكرية، رغم طلب متكرّر من رئيس الأركان إيال زامير. وتفيد المعطيات بأن زامير يسعى منذ أيام لعرض خطط الجيش، إلا أن نتنياهو يرفض، مما يُبقي الجيش في حالة تنفيذ عبثي لعمليات دون غاية إستراتيجية واضحة، وسط إحباط متزايد داخل صفوفه.
الجيش "الإسرائيلي" في وجه الحكومة.. صراع الرؤى في ذروته
من الواضح أن المؤسسة العسكرية "الإسرائيلية" وصلت إلى حدّ الانفجار. رئيس الأركان إيال زامير يعارض اجتياح مدينة غزّة بالكامل، ويرفض احتلال المناطق التي فيها مدنيون وأسرى، ويرى أن الحرب فقدت مبررها الإستراتيجي. وعلى النقيض، يدفع المستوى السياسي نحو التصعيد، ليس لتحقيق نصر فعلي، بل للحفاظ على تماسك الائتلاف الحاكم وتحقيق أهداف أيديولوجية، مثل التمهيد للضم والاستيطان.
التوتر الحاد في جلسات "الكابينت" -كما توثّقه القنوات "الإسرائيلية"- لا يُعبّر فقط عن خلافات تكتيكية، بل عن شرخ عميق في تصور أهداف الحرب ذاتها. فبينما يُدرك الجيش حدود القوّة، يصرّ الوزراء على "انتصار مطلق"، حتّى ولو كانت كلفته فادحة أخلاقيًا وسياسيًا.
وهنا تتقاطع التقديرات الرسمية مع ما نقله مسؤولون عسكريون لصحيفة "معاريف" من أن "أهداف عملية عربات جدعون قد تحققت"، محذرين من أن استمرار القتال بهذه الوتيرة يُفاقم الاستنزاف، ويهدّد الروح المعنوية والجاهزية العملياتية على المدى البعيد.
الجبهة الداخلية.. أزمة شرعية وأثمان باهظة
على المستوى الداخلي، تتصاعد الاحتجاجات من عائلات الجنود والمخطوفين. "نحن نتظاهر من أجل هدف واحد: إنهاء الحرب واستعادة الأسرى"، تقول أمهات المقاتلين. لكن الحكومة لا تستجيب، بل تراوغ، وتضع حساباتها الائتلافية فوق الاعتبارات الإنسانية. ومع تراجع الدعم الدولي، وتزايد التقارير عن مجاعة في غزّة، تعيش "إسرائيل" أسوأ لحظات عزلتها منذ عقود. فرنسا، بريطانيا، كندا، والاتحاد الأوروبي باتت تفكر بخطوات عملية للضغط عليها، بينما تسعى واشنطن لتخفيف العاصفة دون كبح حقيقي لنتنياهو.
أما اقتصاد الحرب، فبلغ حد الانفجار. أكثر من 300 مليار شيكل أنفقت، والرقم مرشح للارتفاع مع أي توغل إضافي. وللمرة الأولى، يُناقش في وزارة المالية أن استمرار العمليات بات "خطرًا على المدى الطويل"، وسط تزايد تكلفة الاحتياط، والذخائر، والصيانة، والتجهيز. ومع كلّ خطوة إضافية نحو احتلال فعلي، تتسع الفاتورة إلى ما يشبه انهيارًا وشيكًا.
حكمة المقاومة
رغم القصف، والتجويع، والعزلة، تُثبت المقاومة الفلسطينية أنها تعرف حدود القوّة، وتُدير المعركة بمنطق سياسي وعسكري رصين. لم تسقط في فخ المواجهة المفتوحة، ولم تتنازل عن شروطها، بل تُراهن على الميدان والوعي والتوقيت. لا تتخلى عن الأسرى كورقة إستراتيجية، ولا تنجرّ إلى خطوات غير محسوبة، بل تنتظر تغير المعطيات، وتُوظف التضامن الدولي، وتُبقي غزّة حاضرة في وجدان المنطقة، حتّى من على حافة المجاعة.
خلاصة تحليلية
إننا أمام مشهد مشحون بالخوف من الفشل لدى "إسرائيل"، والتشبث بالبقاء والكرامة لدى غزّة. المقترح الأميركي-"الإسرائيلي" لا يُخرجنا من المأزق، بل يعمقه، لأنه قائم على فرض الهزيمة لا إدارة تسوية. والجيش "الإسرائيلي" الذي كان يومًا يُنظر إليه كصانع للقرار، بات الآن رهينة حكومة يمينية أصولية متطرّفة، ترى في الضم والطرد حلًا دائمًا، لا كارثة جديدة.
وفي المقابل، غزّة تتحول إلى سؤال مفتوح أمام العالم: هل يمكن سحق شعب بالمجاعة، أم أن البقاء فعل سياسي مستمر؟ هذه ليست فقط حربًا على كيان أو حركة، بل معركة هوية، وحق، وإرادة.
والنتيجة؟ لا نصر عسكريًا في الأفق، ولا تسوية سياسية حقيقية على الطاولة، بل اشتباك مفتوح من موقع الصمود في مواجهة الضغوط واستنزاف لجيش العدوّ وصورته الدولية.