نقاط على الحروف

عزيزتي الدولة اللبنانية، الدولة التي لا أقصد بها فقط العهد الحالي ولا الحكومة الحالية، بل أقصد بها الدولة التي كانت قبل نشأة كيان العدو "الإسرائيلي" وما زالت مستمرة إلى اليوم.
تحية، وبعد:
أنا مواطن لبناني جنوبي منذ أكثر من خمسين سنة، عشتُ منها ثماني عشرة سنة في قريتي الحدودية، وتشكّلَ وعيي على مشهد أشباح سوداء تلوح من بعيد في مستعمرة "مسكاف عام" المطلة على قريتنا، أخبرنا أهلنا أنهم جنود "إسرائيليون".
كنا نخاف ولو الإشارة بالإصبع نحو فلسطين المحتلة، حتى لا يطلق العدو النار علينا، وكثيرًا ما كانت تحصل اعتداءات ويرتقي شهداء ويسقط جرحى بالقصف المعادي على قريتنا وجاراتها.
كان هذا يحصل قبل تلك الليلة التي دخل فيها عناصر العميل سعد حداد قريتنا ليلًا، مالئين الفضاء بنيران بنادقهم، معلنين قريتنا من ضمن "دولة لبنان الحر".
ثم كان نزوحنا، سيرًا على الأقدام، إلى خارج قريتنا، واستمر نزوحنا لمدة سنة، عدنا بعدها إلى القرية، ثم حصل الاجتياح في عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين.
ورحل المقبور سعد حداد، ليخلفه المقبور بعدها العميل أنطوان لحد، فازداد إرهاب العملاء إرهابًا، وكثرت اعتقالات الشباب والصبايا الجنوبيين، ومنهم بعض رفاقي، وكانت الوجهة معتقل الخيام سيئ الصيت، أو معتقلات الداخل الفلسطيني المحتل.
ثم ارتأى العميل لحد، أن يجعل في قريتنا حرسًا مدنيًّا لحماية القرية "من المخربين"، أي من شبان المقاومة، وكنت من الذين فُرض عليهم حمل البندقية، دون تدريب، ودون خبرة، فكنت ورفاقي من تلاميذ المدارس، وأنا ابن خمس عشرة سنة، نقف عند أحد مداخل قريتنا "نحرسها" من "المخربين".
ثم احتاج جيش العملاء إلى عناصر، ففرض الخدمة العسكرية الإلزامية على شبان القرى الحدودية المحتلة، ولم يشفع لي من النجاة من هذه "الخدمة" سوى كون عمي عنصرًا في جيش العملاء.
ثم كان أن غادرت قريتي إلى بيروت لأجل الدراسة الجامعية، وبسبب الخوف من الاعتقال امتنعت بعد أعوام عن الذهاب إلى قريتي، ثم لحق بي أخي الأصغر مني سنًّا.
عزيزتي الدولة، هكذا تشكّلَ وعي جيلي، على عدو مجرم احتل فلسطين، وعمل على توسعة احتلاله بناء على الفكر الذي نشأ عليه كيانه، في ظل غياب تامّ عامّ شامل لأي شيء يشير إلى وجود الدولة اللبنانية.
عزيزتي الدولة، ما مر كان بعض شرح لبعض ما عاينته صغيرًا، رأي عين، وإليكِ بعض الشرح لبعض الوضع الجنوبي العام:
منذ ما قبل نشأة الكيان المعادي على أرض فلسطين العزيزة تعرض الجنوبيون وأرضهم وممتلكاتهم لاعتداءات كادت أن تكون يومية من عصابات الصهاينة الإرهابية، ولم تجد هذه الاعتداءات من يرد عليها من الدولة اللبنانية، ولطالما ارتفعت أصوات الجنوبيين المناشدين الدولةَ الدفاع عنهم، حتى وصل الأمر إلى أن يرسل السيد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه رسالة إلى الرئيس بشارة الخوري في عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، قال له فيها: ".. فإن لم يكن يا فخامة الرئيس من قدرة على الحماية، أفليس من طاقة على الرعاية؟ إذا لا نستطيع أن ندافع ونقاتل ونصون البلد ألا نقدر أن نمسح الدموع ونبلسم الجراح ونطعم الجائعين؟ وإذا لم تؤدَّ الحقوق فلماذا يستمر العقوق؟ فإذا قرأتم السلام على جبل عامل فقل السلام عليك وعلى لبنان". لكن لا عين رسمية تبصر ولا أذن تسمع، ولا قلب يشعر مع الجنوبيين.
عزيزتي الدولة، قال أرسطو يومًا: "الطبيعة تكره الفراغ" (Nature abhors a vacuum، وإذا كانت الطبيعة تكره الفراغ فكيف بالإنسان، لا سيما إذا كان هذا الفراغ سببًا في قتل وتشريد الجنوبيين وتدمير بيوتهم؟ لذلك التحق الجنوبيون بالمنظمات الفلسطينية المقاومة للعدو، التي كانت قد بدأت عملها في الجنوب، إلى أن حصل الاجتياح "الإسرائيلي" الذي وصل إلى بيروت في مدة أيام قليلة، دون أن تُطلق عليه طلقة واحدة من الجيش اللبناني، الذي كان يجب أن يملأ الفراغ منذ عشرات السنين السابقة، لكن القرار السياسي منعه.
بزوال المنظمات الفلسطينية من لبنان بعد ترحيلها إلى تونس فقد الجنوبيون الملاذ الذي كان لديهم والوسيلة التي مارسوا بها مقاومة العدو، بينما أصبحت الحاجة إلى ملاذ ووسيلة أشدّ، بعد أن سيطر العدو "الإسرائيلي" على مناطق واسعة من لبنان، وهنا برزت في الميدان أكثرَ المقاومات اللبنانية المختلفة من وطنية وإسلامية.
عزيزتي الدولة اللبنانية، لم يشعر الجنوبيون يومًا بوجودك بينهم، لا خدماتيًّا ولا إنمائيًّا، ولا شعروا بجيش وطني يحميهم، لأنك منعتِ جيشنا من القيام بدوره الأصلي والأساس وهو الدفاع عن الوطن والمواطنين، والحجة الدائمة والمعزوفة المملولة هي عدم قدرة الجيش على مقاومة العدو، في حين منعتِ وما زلت تمنعين تسليحه وتحديثه وتطويره، إذ ممنوع عليه أن يتسلح بما يشكل خطرًا على "إسرائيل".
عزيزتي الدولة، منذ ما قبل نشأة كيان العدو لم يهنأ الجنوب بالأمن والطمأنينة إلا منذ تحريره في العام ألفين، بعد أن أصبح العدو على يقين أنه لو اعتدى فهناك من ينتظره لتأديبه، وأن الطلقة تقابلها الطلقة والقذيفة تقابلها القذيفة، والصاروخ بالصاروخ. وانتعش الجنوب اجتماعيًّا واقتصاديًّا منذ التحرير لنحو ربع قرن، هو أجمل ربع قرن في تاريخ الجنوببين، لا بفضلك ولا بمنّك، بل بفضل شبان لبنانيين قدموا أرواحهم ودماءهم لأجل الوطن، هذا الوطن الذي لم تقدّريه ولم تعملي ما يجب لأجله منصاعةً لأوامر وأوراق السفارات الغربية والعربية.
يعرف اللبنانيون الشرفاء كيف يحررون أرضهم من العدو، فهم أساتذة في المقاومة وحفظ الكرامة، لكن المعيب أن ترضخ الدولة لأوامر موظف أميركي مرة وسعودي مرة أخرى، ومن المعيب أن تحاول وضع الجيش الوطني في مقابل شبّان الوطن الشرفاء، بدل أن تقوّي هذا الجيش وتسلّحه كما يجب وبما يجب وأن تضعه حيث يجب أن يكون، هناك في الجنوب، وإلى ذلك الوقت، وإلى أن يصبح جيشنا قويًّا قادرًا، فلن يُترك الجنوب للفراغ.