مقالات

يدور في لبنان منذ سنوات جدل حاد بين فريقين حول قضية "حصرية السلاح بيد الدولة":
فريق يرى أن احتكار الدولة للسلاح شرطٌ أساسي لاستعادة السيادة، وهو غالبًا ينطلق من رؤية لا تؤمن بالمقاومة سبيلًا لتحرير الأرض أو الدفاع في وجه العدوان "الإسرائيلي". وينتمي هذا الفريق إلى المعسكر الموالي للغرب الذي يؤكد على الدوام وجود تناقض غير قابل للتوفيق بين المقاومة والدولة، بل إنه يرى إمكانية ولو مستقبلية لإقامة علاقات مع "إسرائيل" من ضمن موجة التطبيع التي راجت مؤخرًا في المنطقة برعاية مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية. ويمكن أن نضيف إلى العلل التي يستند إليها هذا الفريق أن المقاومة لا تتلاءم مع السياحة والازدهار وتدفق الاستثمارات الخارجية.
أما الفريق الآخر الذي يمثله حزب الله وحلفاؤه فيؤكد أن الشرط الأول لحصرية السلاح هو أن تكون الدولة نفسُها سيدة على قرارها وقادرة على حماية شعبها من أي عدوان خارجي، وإلا فإن المطالبة باحتكار السلاح تتحول إلى خطوة شكلية تخدم أجندات خارجية. فكيف تكون الدولة ذات سيادة إذا كانت تتلقى التوجيهات من خارج مؤسساتها، كما هو واقع الحال اليوم حيث تستقبل الحكومة خطة أميركية أمنية جاهزة من دون أي حوار داخلي بشأنها؟ وكيف تطلب حصر السلاح بها إذا كانت لا تملك القدرة اللازمة على حماية شعبها من عدوان خارجي؟ ويؤيد هذا الفريق نموذجًا يضمن التوفيق بين الدفاع عن لبنان وتحقيق مصالحه الاقتصادية، عوضًا عن نموذج أحادي ثبت تاريخيًا أنه هش أمام الهزات الكبرى، حيث عانى لبنان طويلًا من العيش تحت التهديد "الإسرائيلي". ويتساءل هذا الفريق: كيف يمكن للعدو أن يحقق قفزة اقتصادية في ظل مجتمع حرب، بينما لا يمكننا نحن أن نقيم مثل هذا النموذج؟
السياق الأميركي
في ظل هذا الجدل، يطلّ مشروع الموفد الأميركي توم برّاك ليفرض جدولًا زمنيًا وأولويات يرى كثيرون أنها تخدم المصالح "الإسرائيلية" والأجندة الأميركية الإقليمية (نزع السلاح المقاوم في لبنان، غزّة، سورية، العراق، ...) وتنتقص من سيادة القرار اللبناني.
والمسألة المطروحة ليست مجرد قرار بحصر السلاح بالدولة، بل تحديد: أي سلاح يُحصر؟. وأي دولة ستمتلك هذا السلاح؟.
منذ تحرير الجنوب عام 2000 ومقاومة العدوان "الإسرائيلي" عام 2006، برزت معادلة توازن ردع قائمة على تكامل بين الجيش والمقاومة. لكن الخطاب الجديد يسعى إلى خلق تناقض بين المقاومة والدولة، مُراهنًا على أن لا إمكانية للتوفيق بين منطق الدولة ووجود مقاومة تسند الجيش في مواجهة عدوان "إسرائيل" أو أي عدوان خارجي.
ويطرح المشروع الأميركي بنودًا عدة أبرزها:
• نزع سلاح حزب الله وفصائل المقاومة أولًا.
• تحويل الجيش إلى قوة داخلية تُعنى بالتفتيش عن أسلحة المقاومة بدلًا من حماية الحدود.
• فرض آلية رقابة دولية - استخبارية تشمل مراقبة جوية عبر طائرات مسيّرة وأقمار صناعية أميركية وفرنسية، بزعم التحقق من تفكيك البنية العسكرية.
ويركز المشروع على ضرورة نزع السلاح النوعي مثل الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة والدفاع الجوي، وهي الأسلحة التي يعتبر أنها "تهدّد اسرائيل"، على ما قال برّاك في حديث سابق له. ويوضح هذا الأمر أن المطلوب إبقاء "إسرائيل" القوّة الوحيدة المهيمنة على لبنان والمنطقة، في ضوء المسعى الجاري لتجريد الدول المحيطة من الأسلحة النوعية.
ويثير تقديم مشروع توم برّاك بهذه الطريقة العلنية المباشرة أسئلة جدية حول استقلالية قرار الدولة اللبنانية. والسؤال المطروح هنا:
لماذا لم تسلّم الإدارة الأميركية ورقة برّاك إلى الحكومة اللبنانية بطريقة غير مباشرة وتخرّجها على أنها ورقة لبنانية من بنات أفكار هذه الحكومة؟. ولماذا أصرَّت واشنطن على نشرها باسمها وطلبت إقرارها كما هي، في مشهد يبدو توقيعًا على وثيقة استسلام أكثر منه "مناقشة" هذا المشروع في مجلس وزراء يغلب عليه التكنوقراط؟.
هل كان ذاك عن قلة ثقة بهذه السلطة، وبالتالي لا بد من تحديد ما هو مطلوب منها بدقة وحرمانها من أي هامش مناورة داخلية وقطع الطريق على حوار لبناني - لبناني اقترحه رئيس الجمهورية بشأن سلاح المقاومة؟ أم لإشعار الجميع بوضوح بأن القرار الفصل هو لأميركا ولا وقت للحوار اللبناني؟!
هل يستعجل الأميركيون و"الإسرائيليون" إدخال لبنان في مسار يدفعه لاحقًا إلى اتفاقية تطبيع مع "إسرائيل"؟ وهل يهدف هذا المشروع إلى إحداث أزمة داخلية للتغطية على خطة أميركية - "إسرائيلية" لتهجير أهالي مدينة غزّة؟ وما علاقته بمشاريع أميركا لنزع أسلحة فصائل المقاومة في المنطقة، كما أسلفنا؟.
ملاحظات نقدية
توجد ملاحظات هامة على مشروع نزع سلاح المقاومة الذي يختبئ خلف شعار "حصرية سلاح الدولة":
- اختلال الأولويات: فقد تم تقديم نزع السلاح على وقف العدوان أو الانسحاب "الإسرائيلي". وهو يعكس أجندة غير متوازنة تميل لمصلحة "إسرائيل". ولو كانت هناك جدية في مساعدة الدولة اللبنانية على بسط سلطتها على الأراضي اللبنانية، لكان تم تسليم النقاط الحدودية المحتلة إلى الجيش اللبناني ووقف الاعتداءات "الإسرائيلية" اليومية على لبنان والإفراج عن الأسرى اللبنانيين أو أي من هذه المسائل. وهذا لو تم بالمساعي الدبلوماسية سيعطي منطق الحكومة اللبناية دفعًا قويًا في شأن تعزيز سلطتها. لكن الواقع يُظهر وجود أولويات أخرى تضع لبنان في موقع متأخر.
- رهن القرار الأمني: يتضمن المشروع الأميركي إيجاد آلية مراقبة دولية - استخبارية مدمجة مع الجيش اللبناني، وهو ما يحدّ من استقلالية حركة الجيش. مع الإشارة إلى أن المهمّة المركزية للجيش - وفق المشروع - تنحو إلى التحول نحو الداخل بدلًا من حماية الحدود، حيث سيتحول مجرد فرقة تفتيش عن أسلحة المقاومة، مع فرض رقابة مشددة على أدائه لتقييم مدى التزامه بأداء هذه المهمّة. ويعكس ذلك الروحية "الإسرائيلية" في التعامل مع الجيش اللبناني.
وفي ضوء محاولة تكريس مرجعية اللجنة الخماسية التي انبثقت عن اتفاق وقف النار، تفيد تجربة الشهور الماضية أن اللجنة تخضع لتوجيه أميركي - "إسرائيلي" صارم ويحضر فيها لبنان كطرف متلقٍّ وغير فاعل، حيث رفضت اللجنة تلقي شكاوى لبنان عن انتهاكات الاحتلال لاتفاق النار طيلة ثمانية شهور، بالرغم من أن اتفاق وقف النار ينص على كون اللجنة هي الإطار لبحث أي شكوى. فأي دور يبقى للبنان وجيشه في ظل هذه المرجعية في ظل مشروع "حصر السلاح"؟ هل ستكون هناك فعلًا دولة أم سيكون لدينا مخفر كبير على امتداد أراضي لبنان ينفذ ما تمليه اللجنة ذات التوجيه الأميركي - "الإسرائيلي"؟
- المقايضة بين السيادة والاقتصاد: إن ربط مساعدة لبنان ماليًا أو السماح بإعادة الإعمار يضع لبنان في موقع ضعف، لا سيما ان تجارب الوعود الماضية غير مشجعة. الربط الاقتصادي هو حافز أساسي تقدمه الولايات المتحدة وحلفاؤها للحكومة اللبنانية من أجل دفعها إلى الموافقة على نزع سلاح المقاومة في ظل مرجعية خارجية للقرار السياسي. ويقود ذلك في الواقع إلى الاستنتاج أن هناك مقايضة غير متوازنة بين السيادة والاقتصاد.
- صعوبة التنفيذ: ليس من الصعب على الأميركيين تأمين موافقة في مجلس الوزراء على "حصر السلاح"، لكن التنفيذ يتطلب توافقًا سياسيًا لبنانيًا قد لا يتوفر بسبب طريقة طرح الموضوع.
- الضغط الزمني: إن تحديد مهل حتّى نهاية العام الجاري يضيف عبئًا ثقيلًا على السلطات اللبنانية، في ظل الانقسام الداخلي، خاصة مع عدم وجود ضمانات لحماية لبنان. تتصور الحكومة اللبنانية وهي تتّخذ هذه القرارات انها تستعيد سيادتها، لكنّها ستكتشف لاحقًا انها تقع تحت وطأة عبء ثقيل من الشروط غير القادرة على تلبيتها.
- استباحة الأجواء: وتتمثل بفتح سماء لبنان لطائرات تجسس أجنبية تشرف على عملية تفكيك سلاح المقاومة، خدمةً لأهداف "إسرائيلية".
- انعكاسات أمنية: هناك مخاوف مشروعة من أن تستخدم "إسرائيل" قرار مجلس الوزراء، وهي قد رحبت به، ذريعة إضافية لمواصلة احتلال اراض في لبنان ورفض الانسحاب منها، والقيام بغارات جديدة بذريعة عدم تنفيذ قرار الحكومة اللبنانية!
مآلات محتملة
من الواضح أن ما يجري اليوم هو حصيلة ضغط خارجي وليس وليد عملية داخلية وقرار لبناني. وبالتالي، فإن غياب التوافق قد يعرّض لبنان لهزة سياسية كبرى.
وليس صعبًا إدراك أن هناك من يدفع لبنان إلى مزيد من التنازلات الأمنية وصولًا إلى أنصياعه بالكامل أمام المتطلبات الأميركية - "الإسرائيلية" التي تريد إدخاله في عصر "الاتفاقيات الإبراهيمية". في حين أنه توجد إمكانية لبسط سيادة الدولة مع توظيف قدرات المقاومة للدفاع عن لبنان عند الحاجة. وتتطلب طبيعة الصراع مع "إسرائيل" نموذجًا يوائم بين الجيش وتسليح المجتمع، في ظل اختلال الموازين العسكرية بين لبنان وكيان العدو. ولدينا نموذج المجتمع الصهيوني الذي يسمح بتسليح المستوطنين، ونموذج المجتمع الأميركي الذي ينص في التعديل الثاني للدستور الأميركي على "حق الشعب في امتلاك وحمل السلاح"، ويشير إلى أن "الميليشيا المنظمة ضرورية لأمن الدولة الحرة".
في المآل النهائي، لا تبدو رؤية برّاك في نظر منتقديها طريقًا لاستعادة السيادة، بل مشروعًا لإعادة صياغة وظيفة الجيش وتفكيك البنية الدفاعية للبنان. والنتيجة المتوقعة: لبنان مثقل بالتزامات أمنية واقتصادية غير قابلة للتطبيق، وقرار وطني محدود، في لحظة إقليمية قد تكون مقدمة لفرض اتفاقيات تطبيع جديدة على المنطقة.