مقالات

صفّق وزراء السيادة المزيّفة في حكومة نواف سلام فرحين بإقرارهم لأمر الإيعاز الأميركي بنزع سلاح حزب الله، فيما كانت الطائرات الحربية والمسيّرات "الإسرائيلية" تمارس إرهابها على مدى جغرافية وطن المقاومة وتقتل عشرة لبنانيين وتجرح العشرات في أقل من 24 ساعة.
نالت هذه الحكومة وسام التبعية وباركت لها واشنطن وباريس و"تل أبيب" وعرب التطبيع، حتى قال فيها العدو: "من الآن فصاعدًا يمكن اعتبار الحكومة اللبنانية صديقًا وفيًا لنا في ضوء قرارها الداعي لنزع سلاح حزب الله الذي لطالما شكّل تهديدًا لمواطني "دولة إسرائيل"".
أثبتت هذه الحكومة التي تشكّلت على أنقاض معاناة اللبنانيين جرّاء العدوان الصهيوني في أيلول 2024 أنها تتقن فن الخداع والكذب والانقلاب على التعهّدات التي نالت على أساسها ثقة أهل المقاومة في المجلس النيابي، وتنكّرت للعهود التي أطلقتها في بيانها الوزاري بالسعي لتحرير الأرض وإزالة الاحتلال وتحرير الأسرى وإعادة إعمار القرى المدمّرة، وأصبحت بموجب القرار المُملى أميركيا والمكتوب بحبر "إسرائيلي" على طرف نقيض في مواجهة شريحة كبرى من الشعب غير عابئة بعواقب ما اقترفته من خطيئة تاريخية بحق لبنان واللبنانيين.
وهكذا بات بنيامين نتنياهو قادرًا على تنفّس الصعداء وهو يرى "إنجازًا تاريخيًا" استعصى تحقّقه لأكثر من 45 عامًا، ولم تتجرأ أي حكومة لبنانية على مقاربته منذ أن أسقط المقاومون اتفاق 17 أيار الذي أبرمته حكومة شفيق الوازن في عهد أمين الجميّل عام 1983.
نزع سلاح إقليمي
لا يقتصر المخطّط الأميركي – الصهيوني على نزع السلاح في لبنان، فخطوات تنفيذه تجري في قطاع غزة فيما دمّرت "إسرائيل" كل القدرات العسكرية السورية الثقيلة –على الرغم من اتجاه نظام الجولاني إلى الانضواء في ركب التطبيع– وأبقت فقط على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة كأدوات لارتكاب المذابح بحق المدنيين العزّل من الأقليات السورية، فضلًا عن الاستفادة منها في التقاتل الداخلي وعمليات القمع والتصفية حينما ترى "إسرائيل" بذلك مصلحة لها لوأد أي محاولة لتشكيل حركة مقاومة، وعلى غرار الخطيئة التي ارتكبتها حكومة نواف سلام في لبنان تمارس واشنطن الضغط على حكومة محمد شياع السوداني لاتخاذ قرار مشابه لإنهاء دور الحشد الشعبي وحلّ حركات المقاومة العراقية ونزع سلاحها وإلحاق قياداتها وعناصرها في الجيش العراقي، وبذلك تصبح المنطقة ودولها برمّتها ساحة مستسلمة وخالية من أي مقوّمات تتيح لشعوبها القدرة على المقاومة ومواجهة المدّ التوسعي الغربي – الصهيوني.
الإبادة الجماعية نهج تاريخي
يشكّل السلاح هاجسًا دائمًا لقوى الاستعمار، فهو بطبيعته أداة قوة ووسيلة فاعلة في سياق المواجهة، فلم يسجّل التاريخ أن بلدًا محتلًا نال استقلاله وحريته نتيجة اتفاقات دبلوماسية أو معاهدات دولية أو برفع الرايات البيضاء، بل إن أي شعب ألقى السلاح موهومًا من قبل الاحتلال بأنه سيلقى الأمن والسلام تعرّض للقتل والاستباحة والإبادة الجماعية. وللعلم فإن هذا المصطلح ابتدعه المحامي اليهودي رافائيل ليمكين عام 1944 عنوانًا لتجريم النازية بادّعاء ارتكاب هتلر جرائم بحق اليهود في ألمانيا وأوروبا، ونجح ليمكين بدعم بريطاني – فرنسي في تكريس كذبة "الهولوكوست" إلى أن أصدرت الأمم المتحدة قرارًا بإدانة هذا النوع من الجرائم ومعاقبة مرتكبيها في العام 1948. ولكن هذه الخطوة عمليًا جاءت بمثابة تشريع للعصابات الصهيونية التي ارتدت لاحقًا شكل "دولة" لارتكاب الإبادة الجماعية في فلسطين المحتلة بغطاء دولي، فأبادت قرى فلسطينية عن بكرة أبيها بأبشع أساليب التدمير والقتل والإرهاب وأسكنت فيها مستوطنين استقدمتهم من أقاصي الأرض مكان سكانها الأصليين وسلّحتهم كميليشيا مدرّبة على القتل والإجرام، ويستكمل العدو اليوم هذا النهج لإبادة قطاع غزة بمن فيه للانتقال لاحقًا إلى الضفة الغربية وتكرار النموذج الدموي.
مجزرة صبرا وشاتيلا. الرواية الحقيقية
إذا كان الصهاينة أكثر من أمعن في ارتكاب المجازر الوحشية بحق المدنيين العزّل، إلا أنهم لم يكونوا الأوائل الذين اعتمدوا مبدأ الإبادة الجماعية، حيث يدوّن التاريخ محطات سوداء ارتبطت بإلقاء السلاح مقابل خدعة ضمان الأمن. وهناك الكثير من المحطات الدموية التي ارتكبها المحتلّون -بالأخص أميركا ودول أوروبا و"إسرائيل"- بحق الشعوب التي ارتضت تسليم السلاح، ويضيق بها الحديث ولا تسعها الصفحات (*)، ولا يمكننا في هذا السياق تجاوز واحدة من أكثر المجازر بشاعة التي ارتكبها العدو وأعوانه من ميليشيا "الكتائب" و"حراس الأرز" وعملاء سعد حداد في مخيمي صبرا وشاتيلا إبّان الاجتياح "الإسرائيلي" عام 1982.
قيل الكثير في هول المجزرة، ويكفي ذكر ما رواه جوناثان راندل، مراسل صحيفة واشنطن بوست، في كتابه "حرب الألف سنة" عن بعض من مشاهد المجزرة وكان شاهدًا عليها فقال: "استخدموا في وحشيتهم القنابل اليدوية والسكاكين والفؤوس والبنادق. قطعوا أثداء النساء وحفروا صلبانًا في الأجساد، وبقروا بطون الحوامل، وقطّعوا الأطفال إربًا. ذبحوا بأعصاب باردة الرجال والنساء والأطفال وحتى الخيول والكلاب والقطط". هل هذا ما يراد للمقاومة وأهلها وبيئتها إذا سلّمت سلاحها!؟
لاحقًا نفى العدو مسؤوليته عن المجزرة وألصق التهمة بالكتائبيين الذين سعوا للانتقام لمقتل زعيمهم بشير الجميّل، وهذه ذريعة ساقطة بالوثائق والوقائع، فقد كان بشير الجميّل متحمّسًا في الأيام الأولى للاجتياح لتوسيع الشريط الأمني الذي قدّره العدو بعمق 40 كيلومتر من الحدود ليصل إلى بيروت ومناطق الجبل، حيث إن دخول الاحتلال في صلب المعادلة اللبنانية من خلال الإطباق الجغرافي و"التطهير الشامل" يعزّز زعامته بالقوة ويسهم في اندفاعه نحو تغيير جذري لميزان القوى بما يجعل "الكتائب" (القوات اللبنانية) مركز الدولة الرئيسي، فيتحوّل إلى صاحب اليد الطولى في قبول أو استبعاد من يشاء من الأطراف السياسية المكوّنة للنسيج اللبناني.
وربطًا بهذا الطموح مهّدت قوات الاحتلال للجريمة عبر حصار بيروت وعزل المخيمين حيث قدّر تحليل عسكري – استخباري "إسرائيلي" أن التجمّع السكاني في المخيمين على أبواب العاصمة بيروت وتخوم ضاحيتها الجنوبية قد يشكّل عقبة سياسية وأمنية أمام بشير الجميّل بعد انسحاب قوات الاحتلال، ورأى التحليل أن الفرصة سانحة لإزالة هذه العقبة عشيّة تجريد المقاتلين الفلسطينيين من سلاحهم وترحيلهم إلى الشتات، مع العلم بأن الأمم المتحدة -وكذلك واشنطن- كانت أعطت ضمانات أكيدة لحماية المدنيين العزّل من اللبنانيين والفلسطينيين، ولكنها لم تفعل شيئًا سوى التوبيخ والاستنكار.
عبرة اتفاق 17 أيار
من المفيد استحضار التجربة اللبنانية الفريدة في المقاومة لنستشرف القادم من التطوّرات، لعلّ العهد الجديد في حكم لبنان يتّعظ من التاريخ ويبادر إلى فضيلة تصحيح الخطأ قبل أن يجد نفسه مجبرًا على فعل ذلك كما سبقه أسلافه ممّن تآمر مع الخارج ضد أبناء وطنه. والرئيس أمين الجميّل (نموذجًا) واحد من الرؤساء الذين عاصروا مرحلتين حساستين، تمثّلت الأولى بهيمنة أميركية على لبنان والمنطقة عقب الاجتياح "الإسرائيلي" عام 1982، وشهدت الثانية إرهاصات سقوط شبه شامل لقوى المقاومة بعد استسلام منظمة التحرير وترحيل المقاتلين الفلسطينيين من لبنان.
ظنّ أمين أن التأييد العارم محليًا وإقليميًا ودوليًا لانتخابه رئيسًا بعد اغتيال شقيقه بشير والدعم الأميركي و"الإسرائيلي" له سيمنحه الصلاحيات المطلقة في إخضاع قوى المقاومة واستكمال أهداف الاجتياح بهوية لبنانية رسمية تحت ذريعتين، الأولى: تحقيق الأمن وبسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة الجيش اللبناني، والثانية: نزع سلاح الأحزاب الوطنية التي كانت تقاتل الاحتلال إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية. الذي جرى أن "الخطة الأمنية" للجميل تركّزت فقط على النواحي التي لم يستكمل العدو "تطهيرها" في بيروت (الغربية) والضاحية الجنوبية، فيما سُيّرت دوريات شكلية في المناطق التابعة لحزب "الكتائب".
أخطأ أمين الجميّل في حساباته الأميركية فوضع الجيش قبالة الناس في الأوزاعي والرمل العالي وحي السلم وبئر حسن والأحياء المتاخمة للضاحية الجنوبية بذريعة حفظ الأمن وتطبيق القانون، وسقط الشهداء والجرحى برصاص الجيش اللبناني فيما كانت قوات الاحتلال ما تزال تتواجد في مطار بيروت ومحيطه وتتمركز في خلدة، وبموازاة ذلك كان الوفد اللبناني برئاسة أنطوان فتال يفاوض العدو في خلدة وكريات شمونة وصولًا إلى إعلان اتفاقية استسلام عُرفت باتفاق 17 أيار صادقت عليه الحكومة ومجلس نواب أعرج.
عقدة الضاحية الجنوبية
رفضت الأحزاب الوطنية الاتفاق واعتصم الناس أمام مسجد الامام الرضا (ع) في بئر العبد اعتراضًا، لينهال عليها رصاص الجيش اللبناني، فيستشهد محمد نجدي ويُجرح ويُعتقل آخرون. وقع الصدام المحظور الذي حاولت القوى الوطنية تفاديه بقوة، ودفعت واشنطن وتل أبيب الجميّل وحكومة الوزان المستقيلة آنذاك إلى قمع الشعب بعنف ما أدّى إلى تصاعد المواجهات فيما عُرف بانتفاضة 6 شباط، وانتهت بانقسام الجيش وسيطرة الأحزاب الوطنية على بيروت، أما الضاحية الجنوبية العصيّة على الاحتلال "الإسرائيلي" والمارينز الأميركي والقوات المتعدّدة الجنسية فقد شكّلت محور المقاومة ومركز القرار.
فقد الجميّل زمام المبادرة فطلب من واشنطن وتل أبيب العون فكان الردّ الأميركي "ألا تتورط الولايات المتحدة عسكرياً للدفاع عن حكومة الجميّل"، أما رئيس حكومة العدو إسحق شامير فقد أبلغ مبعوثًا أرسله إليه الجميّل أن ""إسرائيل" ترفض التدخل في الحرب الاهلية اللبنانية كما ترفض منح مساعدات عسكرية أو أي مساعدات أخرى لنظام الجميّل". هكذا تخلّى الأميركيون والصهاينة عن الجميّل بعدما أقحموه في أتون المواجهة مع المقاومة وبيئتها، حتى اضطر مرغمًا إلى إلغاء اتفاق 17 أيار بتاريخ 5 آذار 1984، وانتصرت المقاومة.
يدعو البعض إلى عدم توجيه اللوم إلى نواف سلام على حماسته واستعجاله الرضوخ للأمر الأميركي، وهو بذلك يحاكي حماسة بشير الجميّل واستقوائه بـ"الإسرائيلي" طمعًا بمكافأة واهمة لم تصله، ومثله المصفقون كسمير جعجع وأبواقه ومعه الملتجئون إلى حائط الخوف من عقاب لفظي، فهؤلاء كما سلام لا يملكون قرارهم وليس لهم أن يعترضوا على إيعاز يأتيهم عبر مكالمة هاتفية زاجرة، ولكن هؤلاء بحكم التجربة والتاريخ سيُفاجؤون بأن انقلابهم على المقاومة والرهان على التبعية الأميركية سيؤدي بهم إلى الاصطفاف على قارعة الخيبة، والعبرة دائمًا في الخواتيم التي يقرّرها الوطنيون الشرفاء الحريصون حقًا على حريّة لبنان وسيادته واستقلاله.
(*) على سبيل المثال لا الحصر:
- مجازر التتار في بغداد: في العام 1258 حاصرت جيوش المغول مدينة بغداد ولم تستطع الدخول إليها، فعرض هولاكو على المقاومين تسليم سلاحهم مقابل دخول المدينة بسلام، ولكنه انقلب على الاتفاق واستباح بغداد وقتل فيها ما يقرب من 700 ألف ومن بينهم الخليفة المستعصم بالله.
- مذابح المسلمين في غرناطة: في العام 1492 سلّم المسلمون بقيادة أبي عبد الله الصغير سلاحهم للصليبيين بموجب اتفاقية عقدها مع الملك فرديناند مقابل عدم التعرّض لهم، إلا أن الأخير انقلب على الاتفاق وتعرّض المسلمون للقتل الجماعي والتخيير بين التنصّر أو القتل، وأُحرقت المصاحف ودُمّرت المساجد؛ ولم يكتفِ الصليبيون بذلك حيث أنشأوا ما سمّي بـ "محاكم التفتيش" التي لاحقت المسلمين المتنصّرين قهرًا (الموريسكيين) وأعدمت كثيرًا منهم بتهمة الردّة.
- مجازر الفرنسيين في الجزائر: في العام 1830 حاصر الفرنسيون الجزائر وأعطوا الأمان لأميرها أحمد بن باي إذا وافق على تسليم السلاح، ولكنها غدرت به وقتلته وأبادت جيشه. إلا أن أبشع ما ارتكبته فرنسا حين ناشدت الجزائريين المشاركة في الحرب العالمية الثانية ضد هتلر مقابل منحهم الاستقلال فتطوّع نحو 90 ألف جزائري للحرب، وبعد هزيمة النازية انقلبت فرنسا على الاتفاق فخرج الجزائريون عام 1945 بمظاهرات سلمية مطالبين بالاستقلال فكافأتهم بارتكاب أفظع المجازر حيث حشد الفرنسيون الناس في المدن والقرى وأمروهم بحفر قبور جماعية لهم، ثم قسّموهم إلى مجموعات وكلّما أعدموا مجموعة أمروا المجموعة الأخرى بدفن شهدائها ليأتي دورها في الإعدام حتى وصل عدد الضحايا إلى 45 ألف شهيد. ولنا في لبنان حصّة من جرائم الاحتلال الفرنسي نحن بغنى عن استحضارها.
- إبادة الهنود الحمر: في العام 1890 وبعد عقود من المقاومة أبرم المستوطنون الأوروبيون معاهدات "سلام" مع السكان الأصليين الهنود في ما عُرفت لاحقًا باسم أميركا، وقضت بوقف المقاومة وتسليم السلاح مقابل وعود بتركهم يعيشون بحرية وسلام، ولكن الأوروبيين ارتكبوا أفظع المجازر التي أودت بحياة ملايين الهنود العزّل فأبيدوا ودّمرت حضارتهم ومن تبقى منهم يعيش لاجئًا بحقوق منقوصة.
- مجازر سربرنيتسا 1995: خلال حرب البوسنة والهرسك واجه المسلمون عمليات قتل شنيعة من قبل الصرب دفعتهم إلى التشرّد وترك أماكن سكنهم، فأعلنت الأمم المتحدة عن إنشاء مناطق آمنة وطلبت من المسلمين اللجوء إليها بشرط تسليم سلاحهم مقابل التعهّد بحمايتهم، ولكن القوات الصربية اجتاحت المدينة بتواطؤ مع القوات الهولندية العاملة ضمن قوات "القبعات الزرق"، وقتلت أكثر من ثمانية آلاف شخص واغتصبت النساء وقتلت الأطفال، ولم تفعل القوات الدولية شيئًا حيال ذلك بل اكتفت بمراقبة الجرافات الصربية وهي تدفن جثث الضحايا في مقابر جماعية.