اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي أغرب بطاقة صفراء في دوريات كرة القدم.. اللغة الروسية ممنوعة

مقالات

بين وعود
مقالات

بين وعود "الازدهار" و"مصلحة الشيعة": واشنطن تخفق مجددًا في فهم جمهور المقاومة

139

لم تمضِ أربعٌ وعشرون ساعة على الموقف الذي أعلنه رئيس الجمهورية جوزاف عون، في مقابلة متلفزة، أكد فيها رفض التدخل الخارجي وأن “سلاح حزب الله شأن داخلي من اختصاص المؤسسات الدستورية”، حتّى جاءت زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك لتكشف، بمضامينها ورسائلها، أن كلام الرئيس لا يشمل الأميركيين ومن يدور في فلكهم. 

ولو بدا في الشكل أن المبعوث الأميركي يلاقي موقف الرئيس، بتأكيده على أن "نزع السلاح هو قرار يخص الدولة اللبنانية"، غير أن ما قصده برّاك كان مختلفًا تمامًا؛ لأنه لم يهدف لإظهار تنصل بلاده من الضغط والدفع باتّجاه نزع سلاح المقاومة، بل كان يعبّر بصراحة أن واشنطن لن تخوض المواجهة على الأرض، بل إنه يقع على عاتق "أصدقاء واشنطن" في لبنان أن يتولوا الإقدام عليها ضدّ شركائهم في الداخل، مقابل وعود بـ "الازدهار الاقتصادي".

ولم تكن مفردات توم برّاك في زيارته عابرة، فقد تعمّد أكثر من مرة تمرير كلمة "الازدهار" كطُعمٍ سياسي. وعندما سُئل عن الاعتداءات "الإسرائيلية" المتواصلة، قلّل من شأنها معتبرًا أن "الحديث عن "إسرائيل" أمر بسيط، لكن الحاجة اليوم إلى خطة اقتصادية وازدهار". وحين طُلب منه التعليق على رفض حزب الله لقرار حكومة نواف سلام، عاد للحديث عن "بناء الازدهار" بالقول: "لا يمكن أن نأخذ شيئًا من دون أن نعطي شيئًا بالمقابل". بهذه الطريقة يدير الأميركيون لعبتهم المفضلة: "الابتزاز"، بوضع اليد على الحقوق ثمّ المساومة عليها بثمن، وبتسويق الوهم تحت عنوان "الازدهار" هذه المرة، وهو الشعار الذي رُفع في المنطقة منذ انطلاق قطار التطبيع الخليجي.

ولم يتردّد المبعوث الأميركي في التلاعب بالكلمات، فتحدّث عن "تقدّم" تحمله الأسابيع المقبلة، كحياة أفضل للشعب وللجيران، وعن "بداية خارطة طريق لنوع مختلف من الحوار… مع كلّ الجيران". والمقصود كان جليًّا؛ التلويح بجزرة "الازدهار" لن يتوقف عند نزع السلاح فقط، بل سيُربط بالأكثر: التطبيع. وقد لا تكون "إسرائيل" في أمسّ الحاجة إليه في زمن عربدتها بلا رادع، بقدر حاجة ترامب لتقديمه كإنجاز، وبقدر حاجة الرياض له، تلعب فيه دور العرّاب، وتسلّمه كهدية سياسية ثمينة، ثمّ تمضي به علنًا وكأنها آخر الواصلين إليه. وهل سيتوقف الابتزاز الأميركي للدولة عند حدود التطبيع؟! أحوال الأردن ومصر كفيلة بتقديم الإجابة.

كما تحدث توم برّاك عن مبدأ الخطوة مقابل الخطوة، وبما أن الحكومة اللبنانية اتّخذت الخطوة الأولى، الدور الآن يقع على "إسرائيل". وما الذي سيكون مطلوبًا من "الإسرائيليين"؟ يرى برّاك أنه سيتطلب على "الإسرائيليين" وضع خطة تضمن وقف الاعتداءات. وكلامه يأتي متسقًا مع بنود الورقة الأميركية، التي أقرتها حكومة نواف سلام في 7 آب/اغسطس. بموجب "قرار العار" تكون السلطة في لبنان قد نفذت البند الأول من الورقة. وعليه، سيتوجب على العدوّ -بموجب البند (٢)- تقديم خطة منهجية لوقف الاعتداءات، ليأتي بعدها دور الخطوة الثانية لبنانيًا، ويحددها البند (٣) بإنهاء الوجود المسلح للمقاومة. 

ولو افترضنا ذهاب لبنان إلى تطبيق هذا البند، من يضمن أن يُقدم العدوّ على الخطوة المُقابلة بـ "البدء" بالانسحاب من النقاط المحتلة وتسوية قضية الأسرى، خصوصًا أن طموحات نتنياهو لم تعد تتوقف على لبنان، فالرجل يرفع للعالم خارطة "إسرائيل  الكبرى" كهدف مقبل. وسط هذه الوقائع تركن الضمانات التي ارتضتها السلطة إلى "التوبيخ الأممي" الذي سيكتفي بمنحهم اياه الأميركيون إن صدقوا! وعندها سيخرج بعض "أصدقاء أميركا في الداخل"، ممن ابتلعوا ألسنتهم في 21 تموز/يوليو الماضي عندما قال توم برّاك للبنانيين: "عن أي ضمانات يتم الحديث؟ لا يمكننا أن نجبر "إسرائيل" على القيام بأي شيء"، سيعيد هؤلاء أنفسهم تذكيرنا بتصريح برّاك هذا، وأن علينا كلبنانيين ضعفاء أن نرضخ لما يفرضه الأقوى. 

وللمفارقة، فقد سجلت مواقف برّاك، أول انقلاب أميركي على مضمون الورقة الأميركية نفسها، وعلى مبدأ "خطوة مقابل خطوة"، إذ نصّت الورقة على جدول زمني من أربع مراحل لتنفيذ الأهداف. وجاء في "المرحلة الأولى (0-15 يومًا): وقفٌ فوريٌّ للغارات والعمليات "الإسرائيليّة"، ومنع تحريك أسلحة حزب الله، في حين يقرّ مجلس الوزراء اللبناني مرسومًا يلتزم نزع السلاح الكامل بنهاية 2025". ولكن ما جرى كان  العكس تمامًا، فعلى وقع الاغتيالات والاستهدافات، وتحت هدير المسيّرات أقرت حكومة سلام المطلوب منها أميركيًا. وعندما سُئل المبعوث الأميركي  إذا ما كان استمرار الاعتداءات "الإسرائيلية" مؤشرًا على عدم قبول العدوّ للمقترح الأميركي، أجاب: "لم يكن هناك اقتراح أميركي لـ "إسرائيل" لترفضه!". 

وعلى مقلب آخر، بدا الحديث عن "مصلحة الشيعة" لافتًا على لسان المبعوث الأميركي، إن في ناحية الشكل أو المضمون. وربط برّاك ذلك بتجريد المقاومة من سلاحها، ملوحًا بالازدهار والإعمار كمقابل. فهل كان المقصود من كلام برّاك الشيعة فقط أم أن الرجل تعمد استخدام العبارة لمخاطبة أكثر من جهة؟ ولعل برّاك كان بذلك يخاطب:

أولًا: اللبنانيين وغيرهم؛ إذ يسعى الأميركيون - ومعهم "نخب" خليجية وعربية تابعة - إلى تسويق صورة مشوّهة عن حقيقة التأييد الشعبي للمقاومة، فيُحاولون حصره داخل الإطار الشيعي، وذلك بهدف تحجيم المقاومة وسلبها بُعدها الوطني، عبر تصويرها محصورة بإطار طائفي محدود، لا أنها خيار لبناني جامع.

ثانيًا: المكوّنات اللبنانية الأخرى في محاولة لتأليبها ضدّ الشيعة، عبر تصوير المكوّن الشيعي وكأنه العقبة الأساس أمام أزمة لبنان التي يحصرها الأميركيون بمشروع نزع السلاح. وبالتالي تحميل الشيعة مسؤولية عدم الاستقرار السياسي والأمني، وما تفرزه الضغوطات السياسية من تبعات اقتصادية وأمنية على لبنان.

ثالثًا: الشيعة، لِما يشكّلونه من خزان بشري في إمداد المقاومة، وثقلٍ وازن في ميزان التأييد الشعبي. هذا في ظل استمرار الضغوط على هذا المكوّن أمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، بقرارات رسمية تتبنّاها السلطة. 

بموازة هذه الضغوط المتزايدة التي يمارسها الأميركيون عبر سياسات السلطة اللبنانية، يذهب توم برّاك لبيع جمهور المقاومة وعود الأوهام. يقول الأميركيون بصراحة إن التأييد الشعبي للمقاومة لا يزال يمثل العقبة الأكبر. والكلام، بحد ذاته، شهادة صريحة لهذا الشارع. وهو يفسر سياسة العصا التي يلزِّمها الأميركيون لأتباعهم في الداخل، والجزرة التي يلوّحون بها هم. 
وبمنطق ينطلي على السذج فقط، كان توم برّاك يحرك ورقة المغريات للتأثير على من جادوا بالأرواح والأرزاق. هل فعلًا تأمل الأميركيون في أن يُحدثوا فارقًا في موقف مجتمع كامل قتل أبناؤه بضوء أخضر أميركي، وتهدمت بيوته ودمرت قراه بقنابل أميركية؟.

مرة جديدة بعد الألف، تخطئ واشنطن تقدير الموقف، وتخفق في فهم مجتمع المقاومة، الذي لا ينحصر بلون طائفي أو انتماء مناطقي، والذي لم ينتظر يومًا ما يُقدَّم له، بل بادر هو لأن يجود بأعز من امتلك من أبناء لتستمر المقاومة. وهو مجتمع لا تزيده التضحيات إلا وعيًا وحرصًا على عدم التفريط بمقاومة تحمل وجوه كلّ أبنائه شهداء وجرحى ومقاتلون ومؤيدون. وهو الذي كلما ازدادت عليه الضغوط حضرت في ذاكرته صخرة ملحمة ميدون وقد كُتب عليها بدم الشهادة: "سقطنا شهداء ولم نركع، انظروا دماءنا، وتابعوا الطريق".

الكلمات المفتاحية
مشاركة