مقالات

في خبر لافت؛ أقال وزير الحرب الأميركي "بيت هيغسِث" قائد وكالة الاستخبارات الدفاعية الفريق جيفري كروز بعد تقييمٍ أولي لأضرار الضربات الأميركية على مواقع نووية إيرانية أغضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب. هذه الإقالة ترافقت مع إقالة قائدة احتياط البحرية؛ نائب الأدميرال؛ نانسي لاكور، وقائد الحرب الخاصة البحرية؛ الأدميرال ميلتون ساندز، دون توضيح أسباب هذه الإقالات.
وقد تزامن ذلك مع قرارات بسحب التصاريح الأمنية لعشرات المسؤولين الحاليين والسابقين؛ خصوصًا في أجهزة المخابرات المختلفة. وقد حذَّر نواب ديموقراطيون من سابقة خطيرة يرتكبها ترامب بإقالة كروز، فيما اعتبره مراقبون صرخة يرفعها أركان المحافظين الجدد والدولة العميقة الذين باتوا يعتمدون على الحزب "الديمقراطي" في إيصال صوتهم، بعد عملية التطهير الحزبي التي قام بها ترامب داخل الحزب "الجمهوري"، والتي حيَّد من خلالها عشرات القادة الجمهوريين المرتبطين بعلاقة عضوية بالدولة العميقة.
ومنذ إعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية لأول مرة في العام 2016، وجد دونالد ترامب نفسه في مواجهة مباشرة مع ما يُعرف "بالدولة العميقة" في الولايات المتحدة، وهي الشبكة غير المرئية من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ومراكز النفوذ "البيروقراطية"، إضافة إلى جماعات الضغط المتحالفة مع "المحافظين الجدد". وقد اتخذ الصراع طابعاً مفتوحاً منذ اللحظة التي رفعت فيها تلك الدوائر شعار "أوقفوا ترامب"؛ في محاولة لإجهاض وصوله إلى البيت الأبيض.
وعلى الرغم من فوزه المفاجئ في الانتخابات الرئاسية في العام 2016 متجاوزًا المؤسسة الحزبية التقليدية في الحزب "الجمهوري" ومحققًا النصر على مرشحة "الديمقراطيين" هيلاري كلينتون، واجه ترامب منذ الأيام الأولى لحكمه حملة متواصلة؛ هدفت إلى تقويضه سياسيًّا وإداريًّا. فملف "التدخل الروسي"، والتحقيقات المتلاحقة التي طاولت مقرَّبين منه، كانت أدوات وظفتها أذرع الدولة العميقة لعرقلة أجندته السياسية، وإبقاء نفوذ المحافظين الجدد راسخاً داخل مؤسسات الحكم.
أما اليوم، وبعد نجاحه بالعودة إلى البيت الأبيض متجاوزًا مرة أخرى العقبات التي وضعتها في طريقه الدولة العميقة؛ فإن ترامب ــ على ما يبدو ــ بات أكثر تنظيماً في معركته مع خصومه؛ خصوصًا المحافظين الجدد، وغيرهم من أركان الدولة العميقة. فقد اتخذ أسلوباً أكثر انضباطاً مقارنة بالفوضى التي ميَّزت محاولاته خلال ولايته الأولى. إذ يعمل على استهداف شخصيات محسوبة على المحافظين الجدد والدولة العميقة عبر فتح ملفات قانونية وتحقيقات، فيما يبدو أنه استغلال ممنهج من قبله للأجهزة الفدرالية، ولكن بشكل أكثر حنكة هذه المرة.
وتبرز في هذا الإطار الإغارة التي قام بها ضباط مكتب التحقيقات الفدرالية "أف بي أي" على منزل جون بولتون؛ المستشار السابق للأمن القومي، وأحد أبرز رموز المحافظين الجدد، كمثال على هذا التوجه. فمع التحقيقات التي طاولت بولتون، أطلق ترامب تصريحات عدائية تجاهه، واصفاً إياه بـ"الوضيع" و"غير الوطني"، في دلالة على رغبة واضحة في محاسبة الأصوات التي طالما مثّلت رأس حربة في معارضة خطِّه السياسي داخل الحزب الجمهوري نفسه.
هذا التحول؛ يعكس مسعى ترامب إلى إعادة تشكيل وزارة العدل والأجهزة الفدرالية بما يخدم أجندته، بعدما كانت هذه المؤسسات أداة في يد خصومه خلال ولايته الأولى. ومن خلال ما بات يُعرف "بالكتاب الأسود" الذي يحدد أسماء المستهدفين، إضافة إلى مجموعات عمل يقودها مقربون من حملته، يعمل ترامب على بناء جهاز موازٍ قادر على ضرب ركائز الدولة العميقة.
إلا أن هذه المواجهة لا تخلو من أخطار على البنية السياسية الأميركية. إذ إن تحويل المعارضة السياسية إلى تهمة محتملة قد يُدخل الحياةَ السياسية الأميركية في مرحلة غير مسبوقة من الاستقطاب والانتقام السياسي. ومع ذلك، يصر ترامب وأنصاره على أنَّ ما يقومون به ليس سوى محاولة لاستعادة الحكم من قبضة نخبة مترسِّخة؛ حالت دون تنفيذ أجندته السياسية خلال ولايته الأولى.
ويرى مراقبون أن صراع ترامب مع الدولة العميقة ليس مجرد خلاف سياسي عابر، بل هو معركة وجودية بين مشروعين: مشروع المحافظين الجدد الذي سعى لعقود إلى تكريس الهيمنة الأميركية عبر الحروب والتدخلات الخارجية، ومشروع ترامب الشعبوي الذي يقوم على شعار "أميركا أولاً"، والذي يسعي لتقليص نفوذ تلك النخب داخل الدولة. وبين هذين المشروعين، تبقى الساحة الأميركية مفتوحة على احتمالات صدامات أعمق.