نقاط على الحروف

لم يوفّر رئيس الحكومة نواف سلام، ومن معه من جوقة الحكم القائم، أي وسيلة ممكنة لمهاجمة سلاح المقاومة، تراكمت الاتهامات الأميركية المنشأ على لسانٍ لبناني، ووصلت إلى حد تحميل المقاومة مسؤولية انعدام الأمن والاستقرار في البلاد، حينما قال رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام "لا أمن ولا استقرار من دون حصر السلاح"، في تناسٍ كامل لأسباب الانهيار الاقتصادي الذي نعيشه، ومعها أسباب "انعدام الأمن والاستقرار" على حدّ قوله، والمقصود هنا تحديدًا الفساد المستشري في كلّ زاوية من زوايا الدولة، والعدوان "الإسرائيلي" المستمر الذي يقتل كلّ فرصة للنهوض الاقتصادي. وعليه، كان لا بد من إعادة تصويب الأمور مجددًا، وتبيان حقيقة الانهيار الاقتصادي الذي نعيشه، وإعطاء سلاح المقاومة بالمقابل، حقّه في حفظ أمن واستقرار البلد، كقوة ردع وتثبيتٍ للتوازن فيه.
كيف أثر وجود سلاح المقاومة على استقرار البلد؟
في سياق الحديث عن تأثير وجود سلاح المقاومة الحقيقي على الواقع الاقتصادي في لبنان، يشير الخبير والباحث الاقتصادي الدكتور حسن مقلّد، إلى أنه في الفترة التي سبقت وجود المقاومة، وتحديدًا منذ سنة 1975، كان البلد يعيش حربًا أهلية قاسية، وقد نتج عن ذلك واقعٌ اقتصادي غير طبيعي وغير عقلاني بسبب هذه الحرب.
وفقًا للخبير الاقتصادي، شكل عام 1982 عامًا مفصليًا ومهمًا جدًا في تاريخ الاقتصاد اللبناني، حيث دخلت "إسرائيل" ودمرت بشكل منهجي كلّ الأسس الاقتصادية للبلد، الصناعية والتجارية، وكانت تحاول إنهاءها كليًا، وفي فترة ما بعد اتفاق الطائف من عام 1990 إلى عام 2000 يوم كان الجنوب اللبناني يرزح تحت الاحتلال جرى تدمير "إسرائيلي" مبرمج ومستمر للاقتصاد اللبناني.
يضيف مقلد: "رغم كلّ الرعايات العربية، إلا أن البلد كان مستباحًا ومنكشفًا للخارج، اقتصاديًا لم يكن في حالة تطوّر، فالقطاعات الإنتاجية كانت في حالة تدمير، مع استقرار القطاعين العقاري والمالي"، ويتابع: ""إسرائيل" كانت تستبيح لبنان لحين تفاهم نيسان 1996، الذي تمكّن بفضل المقاومة من تثبيت شكل من أشكال التوازن، لم يعد فيه عمق البلد معرّضًا للتدمير أو للاستباحة من قبل العدوّ "الإسرائيلي"، وهذا الأمر كرّس للمرة الأولى فكرة المقاومة وسلاحها كعامل توازن يفتح الإمكانية أمام جذب الاستثمارات، وتطوّر النشاطات الاقتصادية".
ويلفت الدكتور مقلّد في هذا السياق، إلى أن مرحلة التحرير، أي من العام 2000 وصولًا لعام 2023، وأمام التوازن الذي فرضته المقاومة بقوتها، أصبح سلاح المقاومة ومعادلة الردع، العامل الأساسي الذي يسمح فعلًا بمقاربة اقتصادية مختلفة وبضمان للاستثمارات، وهي التي سمحت للناس بإعادة الاعمار وتشييد بنى اقتصادية وإنتاجية. ما يرى مقلد أنه "تكرّس أيضًا بموجب معادلة النصر، حينما تخطت المقاومة موضوع الحدود اللبنانية، ومن الأمثلة على ذلك استقدام الحزب للمازوت على سفن إيرانية، إذ أعلنت المقاومة يومها أن هذه السفن هي أراضٍ لبنانية، ولم يتجرأ الأميركيون ولا "الإسرائيليون" على ضربها، يضاف إلى ذلك التفاهمات التي لها علاقة بالبحر وترسيم الحدود.
كلام مقلد تؤكده لُغة الأرقام، فقد نشر البنك الدولي في تلك الفترة عبر موقعه الإلكتروني إحصاءً لمعدل النموّ الاقتصادي في لبنان ما بين العام 1990 و2004، أظهر أن هذا المعدّل شهد استقرارًا وارتفاعًا منذ العام 2000، بنسبة بلغت 1.34% ووصلت إلى 6.68% عام 2004.
فساد الدولة: وجه الانهيار الأول
تجاهل رئيس الحكومة نواف سلام، الأسباب والجذور الحقيقية للانهيار الاقتصادي الذي نعيشه، وارتباطاتها المتشعّبة، رغم تأكيدها من الباحثين والخبراء الاقتصاديين، ففي العدد الثالث عشر من النشرة الاقتصادية الصادرة عن مديرية الدراسات الاقتصادية في المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، يشير الباحثون مثلًا إلى جذور الأزمة المالية والاقتصادية ويرون أن التمسك بالمساعدات الخارجية والاعتياد على قرع أبواب الخارج كلّما وجد المسؤولون - ممن يرفعون لواء السيادة - أنفسهم أمام أزمة اقتصادية هي من صنع أيديهم، يَجعل هؤلاء عرضةً للابتزاز من قبل المانحين الأجانب مقابل حصولهم على المساعدات والضغط عليهم في مواقف متعددة، وأبسط مثال يعطى على هذه المساعدات، هو ميزانية القطاع الصحي في لبنان التي تعتمد في 40% منها على التمويل الخارجي بشكل أساسي، وفقًا لتصريح وزير الصحة السابق فراس الأبيض.
ترجع الدراسة أعلاه (النشرة الاقتصادية)، الأسباب الداخلية للأزمة الاقتصادية إلى الأزمات المالية التي ظهرت منذ مطلع التسعينيات والمتمثلة في سوء إدارة المال العام والانفاق المتزايد خارج قوانين الموازنة، تحت وطأة كلفة التسويات السياسية التي فرضتها وثيقة الوفاق الوطني أواخر سنة 1989، وقد كانت نتيجة هذا الاتفاق، قطاعًا عامًّا قليل الإنتاجية تسوده المحسوبيات السياسية والطائفية والفساد، فضلًا عن التثبيت المصطنع لسعر الصرف واستنزاف الاقتصاد، من خلال توسّع العجوزات في المالية العامة وفي الميزان التجاري، وبالتالي زيادة المديونية مع ما يترتب عليها من استدانة مستمرة لتغطية ديون مستحقّة. وقد بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان151% في نهاية عام 2000، ووصلت إلى ما يقارب 160% في أواخر عام 2025، وفقًا لبيانات Macroeconomic)) وصندوق النقد.
وتعتبر الدراسة أن تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعي يعتمد على القروض تسبب بتراجع النموّ الاقتصادي فانخفض الاستثمار من 29% في موازنة سنة 1998 إلى 9.8% في موازنة سنة 2024، تزامن ذلك مع سياسات الهندسة المالية التي مارسها مصرف لبنان منذ عام 2016، فضلًا عن تجنب الحكومات اجراء أي إصلاحات جدية في النظام الضريبي القائم.
العدوان "الإسرائيلي" يُكمل المشهد
من الأسباب الداخلية تنتقل الدراسة إلى تعداد الأسباب الخارجية، وفي مقدمتها الاعتداءات "الإسرائيلية" على لبنان بأشكالها المختلفة: حرب تصفية الحساب عام 1993، حرب عناقيد الغضب عام 1996 (تسببت بخسائر بقيمة 500 مليون $)، عدوان تموز عام 2006 (خسائر اقتصادية بقيمة 2810.5 مليون $) وصولًا للعدوان "الإسرائيلي" المستمر منذ تشرين الأول 2024 حتّى تاريخه، وبحسب تقديرات البنك الدولي الأولية، بلغ حجم الأضرار نحو 14 مليار دولار.
هذه الأسباب يضاف إليها العقوبات والحصار الاقتصادي (التجاري، المالي..) الذي تمارسه الولايات المتحدة على لبنان، والذي حوّل حتّى المساعدات الخارجية لإعادة الإعمار إلى مادة دسمة للابتزاز السياسي من قبل الدول المانحة وعلى رأسها دول الخليج، من أجل إحداث تغييرات سياسية وأمنية في الواقع اللبناني خدمة لـ"إسرائيل".
إلى جانب ذلك، توقفت النشرة الاقتصادية عند الركود الاقتصادي العميق الذي تسببت به جائحة كورونا عام 2020، فضًلا عن انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، وتراجع الناتج المحلي في هذا العام بنسبة غير مسبوقة بلغت 24.6%، وفق البيانات الرسمية للبنك الدولي.
فساد وحصار برعاية "أميركية - خليجية"
من هذا المنطلق يرى الدكتور مقلّد أن المرء لا يستطيع عزل الاعتبارات الاقتصادية القائمة وربطها فقط بدور المقاومة، ويؤكد أن القرار الاقتصادي والمالي منذ اتفاق الطائف كان بيد الأميركيين وحلفائهم الخليجيين وممثليهم السياسيين في لبنان، إذ جرى تلزيم النظام السوري السابق الملف الأمني والعسكري في لبنان، بينما كان القرار المالي والاقتصادي والإداري في لبنان عند الخليجي والسعودي تحديدًا المرتبط مباشرةً بالأميركيين.
يوصّف الدكتور مقلد عملية ضرب الإنتاج في البلد بأنها فساد كبير جدًا، كان له آليات رعاية مباشرة من البنك الدولي وصندوق النقد، ويشير إلى أن قرار التوقف عن الدفع والإفلاس عام 2019 كان أيضًا برعاية أميركية،
لافتًا إلى أنه عندما حاول البعض وضع رؤية اقتصادية مختلفة قائمة على التوجّه شرقًا، كان حجم الهجمة الأميركية وهجمة المصالح الداخلية اللبنانية مدمّرًا جدًا لهذه الرؤية، ولهذا السبب لم نجرب اليوم بديلًا عمّا كان قائمًا، وعندما جرّبنا، جرّبنا بخجل، وعُدنا اليوم لأسوأ نقطة.
خلاصة الأمر لا يمكن لموقف سياسي أو إعلامي عابر مهما تعامى عن الحقائق أن يحجب شمس المقاومة أو يحور الوقائع الاقتصادية التي دوّنها التاريخ والتي تؤكد بمجملها أن سلاح المقاومة الذي ينادي نواف سلام اليوم بـ"حصريته" في سياق أجندة أميركية خليجية هو الذي أوجد معادلة ردع وفّرت للبنان كلّ الظروف الأمنية المناسبة لجذب الاستثمارات والخدمات وتشجيع السياحة وإقامة المشاريع الإنتاجية والنهوض بالبلد، وهو ما لم يستثمره أهل السلطة بما يخدم اقتصاد هذا البلد، فكان الفساد المستشري سيّد الموقف في كلّ المحطات، الفساد الممتدّ بقرار أميركي وبدعم "إسرائيلي" عدواني، وبمباركة زعامة الوصاية السياسية في البلد.