مقالات

من يتابع مناورة العدوّ التحضيرية للشروع بعملية احتلال مدينة غزّة، يستنتج وبما لا يقبل الشك، أن هذه العملية انطلقت ولا يمكن أن تتوقف، وأن قرار رئيس حكومة الاحتلال أصبح نافذًا ولا رجوع عنه، وأن أبناء مدينة غزّة لا يؤخّرهم عن اللجوء جنوبًا وترك المدينة إلا نقطتين فقط: أولًا، إيجاد طريق آمن بعيدًا عن استهدافات العدوّ الجوية والصاروخية والمدفعية، وثانيًا، النجاح في إيجاد مكان آمن - مخيم طبعًا وليس حيًّا سكنيًّا حيث دُمّر أغلبها - يلجأون إليه ويكون خارج دائرة استهدافات العدوّ القاتلة.
طبعا، النقطتان: الممر الآمن للخروج من المدينة، والمخيم الآمن للمكوث المؤقت، في جنوب القطاع أو في وسطه، هما غير متوفرين بتاتًا حتّى الآن، وعمليًّا، من قرر من أبناء غزّة النزوح منها قبل عملية الاقتحام، وهؤلاء لا يمثلون النسبة الأكبر بل النسبة الأصغر من أبناء المدينة، يعتبرون أن نسبة تعرضهم لخطر الاستهدافات القاتلة في مدينة غزّة، لا تختلف كثيرًا عن نسبة تعرضهم لهذه الاستهدافات عند تركهم المدينة.
هذا الأمر والذي يشكّل أحد أسباب تأخر أبناء غزّة في النزوح عنها، ليس هو السبب الحقيقي الذي يعرقل حتّى الآن خطة العدوّ ( عربات جدعون ٢ ) بمرحلتها الأولى والتي هي دفع أبناء غزّة إلى النزوح الجماعي ومحاصرة مقاتلي حماس في احياء المدينة، وذلك تحضيرًا للمرحلة اللاحقة الحاسمة: اقتحام نهائي والاجهاز على عناصر المقاومة وتحرير الأسرى.
طبعا هناك أسباب أخرى وعملية، هي التي تشكّل العائق الرئيسي أمام إطلاق عملية الاقتحام، ويمكن الإشارة إليها كالتالي:
أولًا: لا شك أن العدوّ يعاني بمستوى مرتفع جدًّا من النقص في جهوزية عديد عناصره لإكمال القوى المطلوبة لمهاجمة المدينة، وهذه المعاناة أو هذا النقص في عديد جنوده وضباطه، ثابت واكيد استنادًا لوقائع حسية، فرضتها مشكلة العدد الكبير من الإصابات لدى جنوده، في حرب قاربت السنتين بعد عملية ٧ أكتوبر، بالإضافة للعدد الكبير من المبعدين عن الميدان لأسباب نفسية، ترجمتها نسبة الانتحار المرتفعة بين جنوده.
والأهم في هذا الإطار أيضًا، أن كلّ هذه النواقص في العديد، عجزت حتّى الآن خطط الاستدعاء المتكرّرة والضعيفة عن تغطيتها، وذلك بسبب تردّد وخوف أغلب عناصر الاحتياط المعنيين بالالتحاق في قطع الاستيعاب لأسباب كثيرة، اقلها كوابيس المعارك وجها لوجه والقتال المتقارب ضدّ وحدات المقاومة في غزّة.
ثانيًا: يكتشف قادة العدوّ الميدانيون، والذين ينفذون عمليات استطلاع بالنار على مداخل مدينة غزّة، الشمالية أو الجنوبية أو الشرقية، حيث تعددت وتكرّرت محاولات الاقتحام للمدينة من الجهات الثلاث المذكورة، وخاصة في جباليا أو الشجاعية أو احياء الزيتون والصبرة والشيخ رضوان، أن قدرة عناصر المقاومة على القتال ترتفع يومًا بعد يوم، في العدد المشتبك أو في الأسلحة المستعملة، وخاصة العبوات الناسفة بمختلف أنواعها، وهذه القدرة المتصاعدة للمقاومة، تُتَرجَم عمليات مركبة متقنة، رفعت من عدد الأحداث الصعبة بشكل لافت مؤخرًا، الأمر الذي يترجم خوف وخشية هؤلاء القادة الميدانيين، ويترجم بالنهاية موقف رئيس أركان العدوّ ايال زامير باعتباره العملية خطيرة وبتحفظه على تنفيذها وبوقوفه - رغم أنه مُجبر على تنفيذ اوامر وزير الحرب ورئيس الحكومة - مع تسوية جزئية للتبادل.
من هنا، فإن كلّ هذا الصخب وراء وجوب وحتمية تنفيذ العملية، الصخب من داخل أروقة سلطة الكيان والذي يمثله نتنياهو ووزراؤه المتشددؤن، أو الصخب من خارج الكيان وصولًا إلى البيت الأبيض والرئيس ترامب شخصيًّا، يبقى في إطار الضغط فقط، حيث يُستنتج من تحليل بعض المعطيات عن تقدم معين في مسار تفاوضي جانبي يجري وراء الكواليس، لم يعد مستبعدًا نجاحه، وحيث أصبح هناك قناعة لدى المعنيين بقرار التنفيذ، أنه من المستحيل ان ينزح الكثير من أبناء غزّة عنها - للأسباب المذكورة أعلاه - والقناعة الأخرى أصبحت راسخة أيضًا، أن ثمن عملية احتلال المدينة، لن يكون أقل من مقتل كلّ من تبقى من أسرى إسرائيليين احياء، بالإضافة لمقتل عدد كبير من الجنود والضباط المهاجمين، الأمر الذي يرفع وبنسبة كبيرة من إمكانية وقف عملية اقتحام المدينة لاحتلالها.