مقالات مختارة

إبراهيم الأمين - صحيفة "الأخبار"
بسرور كبير، يعمل الرئيس نواف سلام وفريقه المعنيّ بالملف الفلسطيني بخطوات متسارعة لإعادة تنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان، ولكن وفق مقاربة مغايرة تمامًا لما هو قائم اليوم. وإذا كان أبناء المخيمات واللاجئون الفلسطينيون غير مسرورين بواقعهم الحياتي والإنساني البالغ الصعوبة، فإنهم يدركون في قرارة أنفسهم بأن ما يجري لا يستهدف تحسين أوضاعهم، بل دفعهم قسرًا نحو رحلة هجرة أخيرة، بعيدًا عن فلسطين، حيث يُمحى تدريجيًا حضورهم ولا يبقى منهم من يتذكّر أن له وطنًا مسلوبًا.
ما جرى حتّى الآن يمكن وضعه في إطار مساريْن:
الأول، يتعلق بالسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وفريقه الضيق، ممن يسعون إلى استغلال الحرب "الإسرائيلية" المجنونة ضدّ الدول العربية والإسلامية لفرض مسار جديد على ثلاثة مستويات: واقع مؤسسات السلطة نفسها، وواقع حركة "فتح"، وواقع العمل السياسي الفلسطيني خارج فلسطين.
وإذ يدرك عباس وفريقه أن مصير السلطة بات مجهولًا، وأن المشروع "الإسرائيلي" يتّجه نحو الإجهاز على ما تبقّى من هيكلها، فإن انخراطهم في هذا المسار لا يعكس فهمًا مغايرًا للوقائع، بقدر ما يجسّد ارتهانهم لمنظومة المصالح الخاصة التي باتوا أسرى بها. ومن هنا، يبدو أنهم يعملون عمليًا على تنظيم "تركة السلطة" لتؤول حصرًا إلى مجموعة ضيقة مرتبطة بعائلة عباس ودائرته السياسية.
الثاني، يتعلق بفريق لبناني يعمل على تهيئة الشروط المناسبة للتحالف الأميركي - السعودي - الفلسطيني في لبنان. ويتعامل هذا الفريق مع اللاجئ الفلسطيني كـ"عبء" يجب التخفّف منه. وهو عبء يتوزّع بين الدور السياسي لهؤلاء اللاجئين الذين يُظهرون، جيلًا بعد جيل، التزامهم بقضية استعادة أرضهم، والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية لتجمّعات اللاجئين بهدف إسقاط كلّ الأشكال الاجتماعية والسكنية والديموغرافية التي تُبقي عليهم مجتمعين، ولو في بيوت متّكئة على جدران هشّة.
نزع السلاح ولو بالقوّة
ووفق مصادر مطّلعة على مجريات ما يدور حاليًا، فإن مشروع نزع سلاح الفصائل الفلسطينية في لبنان مستمر من جانب تحالف عباس - سلام، وبالطبع بدعم من رئيس الجمهورية جوزيف عون وقوى لبنانية عدّة، لكلّ منهم دوافعه الخاصة. ويبدو أن الخطوات العملية الحالية، على خفّتها وضحالتها، تمثّل بالنسبة إلى هذا الفريق إنجازًا مهمًا لا يفرض عليه الأعباء التي يمكن أن يفرضها ملف آخر مثل سلاح المقاومة.
ووفق المصادر، فإن الخطوات التي جرت حتّى الآن وتمثّلت بتجميع مجموعات تابعة لحركة "فتح" أو لأجهزة السلطة الفلسطينية كميات من الأسلحة المصنّفة ثقيلة ومتوسطة، لا تعنى شيئًا بالنسبة إلى أبناء المخيمات، ولا إلى اللبنانيين الذين تجاوزوا الدور الفلسطيني في أزماتهم منذ انتهاء الحرب الأهلية، ولا حتّى إلى "إسرائيل" التي ترفض بقاء ولو سكين بين أيدي الفلسطينيين، إذ إن ما سُلّم حتّى الآن لا يعدو كونه أسلحة خارج الخدمة بحسب خبراء عسكريين.
الحكومة بدأت مرحلة الضغط على "حماس" وفصائل خارج منظمة التحرير، وعباس مستعدّ للتورط في الدم شرط تلقّي دعم من لبنان و... "إسرائيل"!
لكن، رغم هشاشة الخطوة وضآلتها، فقد كانت ضرورية لتحالف بيروت - رام الله، إذ سرعان ما انتقل النقاش لدى هؤلاء إلى كيفية محاصرة فصائل المقاومة الفلسطينية الناشطة، خصوصًا حركة "حماس". وقد تُرجم ذلك في الاجتماع الذي عُقد في السراي الكبير بين ممثّل نواف سلام، رئيس لجنة الحوار السفير رامز دمشقية، وقيادة "حماس" في لبنان.
ففي مستهلّ اللقاء، بادر دمشقية ضيوفه بالتشديد على ضرورة أن تبادر "حماس" وسائر الفصائل إلى تجميع ما لديها من سلاح لتسليمه للجيش اللبناني في أسرع وقت ممكن. غير أنّ رد وفد "حماس" جاء واضحًا، مؤكدًا أنّ ملف السلاح لا يخصّ تنظيمًا بعينه بل يشمل جميع الفصائل الفلسطينية، وأنّ ما تقوم به السلطة اللبنانية حاليًّا لا يزال محصورًا بالتنسيق مع حركة "فتح"، من دون أي تشاور، لا من سلطة بيروت ولا من سلطة رام الله، مع الفصائل ذات الحضور الجديد في المخيمات، علمًا أنّ بعضها أصلًا ليس منضويًا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي ختام اللقاء، أبلغ وفد "حماس" دمشقية بأنّ أي نقاش جدّي حول السلاح يجب أن يتم مع جميع الفصائل، ما دفع الأخير إلى الاتفاق على عقد اجتماع موسّع خلال أيام.
الأمر الآخر الذي طُرح على الطاولة كان ملف الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين. ولم يُجب دمشقية عن سؤال حول الخطوات التي سبق أن وعد بتنفيذها، ولا عن سبب تغييب مشروع القانون الذي تعهّد بإعداده لإقرار وتنظيم هذه الحقوق. واكتفى بالكلام العام وإعادة تدوير الوعود، من دون أي التزام فعلي، ومن دون أن يحيد عن أصل مهمته التي تتعلّق بملف السلاح.
لكن، على ماذا تراهن فرقة عباس - سلام، وإلى أين تسير في هذا المشروع؟
خطة البنود الثمانية
الواضح أن ما يجري حاليًّا يندرج ضمن مشروع متكامل تشرف عليه الولايات المتحدة والسعودية، ويجاري مطالب "إسرائيل"، وتوجهات حكومات عربية تسعى إلى التخفّف من عبء اللاجئين. لكنّ الهدف الفعلي يتجاوز ذلك إلى التخلص من فكرة المقاومة نفسها. وتبدو خطوات المشروع مهيّأة لتحقيق الآتي:
أولًا، الشروع في خطة شاملة لنزع سلاح الفصائل الفلسطينية، وتحويل كلّ مَن يصرّ على حمل السلاح إلى شخص مخالف للقانون ومطلوب للقضاء"، مع حظر أي نشاط له على الأراضي اللبنانية.
ثانيًا، إعادة تشكيل قوة أمنية تابعة لسلطة رام الله تكون جاهزة للتعاون مع الجيش اللبناني في أي عملية تستهدف نزع السلاح بالقوّة، سواء داخل المخيمات أو خارجها.
ثالثًا، ربط أي مساعدات مالية، تربوية، صحية أو خدماتية تقدّمها السلطة الفلسطينية - في ظل تراجع خدمات وكالة "الأونروا" - بالتزام أبناء المخيمات بمشروع نزع السلاح، مع استبعاد كلّ من يرفض الالتزام عن الاستفادة من المؤسسات المدنية والخدماتية.
رابعًا، الشروع في خطة لإبعاد كلّ من هو غير فلسطيني من المخيمات بالقوّة، وتوسيع دائرة الملاحقة لكل المعارضين، بحجّة مخالفة القوانين اللبنانية، مع السعي إلى التعامل بالقوّة مع المجموعات الإسلامية المُصنّفة ضمن قوائم الإرهاب.
خامسًا، تقديم المعلومات الأمنية إلى الأجهزة اللبنانية حول كلّ فلسطيني لا يلتزم بقرارات السلطة الفلسطينية، بما في ذلك المعطيات المتعلّقة بالمجموعات المنخرطة في العمل المقاوم، خصوصًا تلك التي تربطها علاقات خاصة مع حزب الله.
سادسًا، مسارعة دول غربية، خصوصًا عواصم أوروبية مثل بلجيكا وهولندا، لتشجيع فئة محدّدة من اللاجئين الفلسطينيين على التقدّم بطلبات لجوء إنساني، مع غربلة دقيقة للأسماء المختارة، والتعاون مع الولايات المتحدة لتنفيذ برنامج يهدف إلى إخراج نحو مئة ألف فلسطيني، أي ما يعادل نحو 40% من اللاجئين الذين لا يزالون يقيمون في لبنان.
سابعًا، تقديم السلطات اللبنانية تسهيلات للإقامة الدائمة لكل لاجئ فلسطيني متزوّج من لبنانية، أو فلسطينية متزوّجة من لبناني، إضافة إلى تسهيل تملّك أصحاب رؤوس الأموال من اللاجئين لإطلاق مشاريعهم الخاصة، مع منحهم تسهيلات في التملّك والعمل في مختلف الوظائف، شريطة ألّا يحصل هؤلاء على الجنسية اللبنانية في المدى المنظور.
ثامنًا، إغراء أبناء المخيمات بمساعدات مالية للانتقال إلى العيش خارج المخيمات، وهي خطوة من المتوقّع أن تلقى قبولًا واسعًا بين سكان المخيمات، لكنّ الهدف الإستراتيجي منها هو إفراغ المخيمات من سكانها من اللاجئين، مع إبعاد غير الفلسطينيين بحجة مخالفة قوانين السكن، تمهيدًا للمرحلة الكبرى: إنهاء وجود المخيمات في لبنان وتملّك الدولة للأراضي، وتحويلها إلى مشاريع سكنية أو تجارية تابعة للدولة اللبنانية.
هل يتورّط المعنيون في الدم؟
الواضح، بحسب المعنيين، أن مشروعًا بهذا الحجم لا يمكن أن يُنفّذ من دون حصول الجهات الراغبة بتنفيذه على دعم عملي من جهات ذات قدرات كبيرة. وفي هذا السياق، يرد تعهّد "إسرائيل" بمواصلة عملية تصفية كلّ فلسطيني منخرط في المقاومة المسلحة، بغضّ النظر عن انتمائه التنظيمي، مع استعداد لتوجيه ضربات قاسية إلى المخيمات في حال اقتضت الحاجة. كما يُطلب من الجيش اللبناني تشديد الإجراءات على حركة الداخلين والخارجين من المخيمات، وتوقيف كلّ شخص مطلوب للقضاء، مهما كان نوع التهم الموجّهة إليه.
ولا يمانع فريق عباس اللجوء إلى مواجهة مسلّحة مباشرة مع المجموعات المعارضة، شريطة الحصول على دعم السلطات العسكرية والأمنية اللبنانية. مع التذكير بأن حركة "فتح" حصلت على دعم عسكري من خارج مخيم عين الحلوة في المواجهة العسكرية التي وقعت بينها وبين فصائل إسلامية قبل طوفان الأقصى، حين سهّل الجيش اللبناني نقل أسلحة ومقاتلين من الجنوب وبيروت إلى المخيم، في حين كانت أجهزة السلطة تشتري الأسلحة من قوى لبنانية، ومن مهرّبين ينقلون السلاح من سورية إلى لبنان.
وتشير الوقائع إلى أنّ في رأس حاكم رام الله شيطانًا كبيرًا، لا يهتم حتّى لسفك دماء أهله، إذا كان ذلك يعزّز موقعه لدى الأميركيين و"الإسرائيليين". لكن، ما هي مصلحة السلطة في لبنان بالانخراط في لعبة قذرة كهذه؟