مقالات
ما إن أسدلت قمة العرب والمسلمين في الدوحة الستارة على بيان المواقف "العنترية" حتّى أفرغ بنيامين نتنياهو جام حقده على غزّة وجنوب لبنان (النبطية) بالقصف والغارات الوحشية ليغتال النساء والأطفال، وتبادل مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو نخب الضحك على قمم العرب التي طالما رأى الصهاينة قيمتها صفرًا على الشمال، أي لا طعم لها ولا لون ولكنها تضج برائحة الهزيمة والاستسلام.
ضرب نتنياهو بالبيان الختامي الذي صدر عن قمة الدوحة عرض الحائط، وهي لم تجتمع بهذه السرعة وبهذا المستوى العالي من التمثيل من أجل وقف حرب الإبادة العرقية التي يرتكبها الحلف الأميركي - "الإسرائيلي" بحق الشعب الفلسطيني، فهو يعلم كما علمت "غولدا مائير" قبله أن العرب لا يبرعون سوى بإطلاق المواقف الفارغة من أي فعل.. صحيح ان صياغة بنود القمة جاءت عالية النبرة وكالت الاتهامات والنعوت لنتنياهو وحفلت بالنوايا والوصايا ولكنها خلت من أي استعداد للرد بالمثل، فالعرب يخشون "زعل" دونالد ترامب الذي كان يعلم مسبقًا بأن الدوحة سوف تكون هدفًا للعدوان وناقش الأمر مع نتنياهو على المستويين السياسي والعسكري دون أن يرفض أو يعترض بحسب ما كشف موقع "أكسيوس" المقرب من دوائر القرار والاستخبارات الأميركية، وهذا ما يضعه في خانة المتواطئ والمحرّض على العدوان "الإسرائيلي".
لم يكن متوقعًا من القمة العربية والإسلامية أكثر مما صدر منها، ولعل بيانها الختامي صيغ في واشنطن التي غاب أي ذكر لها في عبارات "التوبيخ"، دون ان تصل جرأة المطبعين منهم للإعلان عن تعليق العلاقات مع "إسرائيل" في الحد الأدنى! فهم في المربع الناقص على خارطة النظام العالمي وعلى هامشه المهمل.
إيران وباكستان كانتا مباشرتين في المطالبة بعقاب فعلي "لاسرائيل" والاتحاد في مواجهة الكيان الإرهابي، فيما نحا الباقون إلى الدعوة لتوحيد الموقف من "الحكومة "الإسرائيلية" الحالية" والعمل على وقف تماديها الإجرامي.. ولكن نتنياهو الذي احتفل مع روبيو بافتتاح نفق سلوان - القدس، وقبل أن يلتئم شمل المجموعة العربية للدفاع المشترك للنظر في خطوات الرد، بادر إلى رفع سقف التحدّي بالنار والدمار ليقول للعرب: ما انتم فاعلون!؟.
نجحت قمة الدوحة في توصيف الواقع العربي والإسلامي المتردي والعاجز عن المبادرة إلا من رفع الصوت، ولكنها فشلت في امتحان الرد على الرغم من الترسانات العسكرية الضخمة التي تمتلكها معظم دولها، وإذا ما استثنينا لبنان والجمهورية الإسلامية الإيرانية من هذه المعادلة فلا أحد من الحاضرين يمتلك الحافزية ولو لتحريك قواعد الصواريخ لديه أو استنفار طائراته الحربية، ولا الجرأة على إعلان قطع العلاقات مع "إسرائيل" وسحب سفيره وممثليه أو وقف التعاون الاقتصادي والتجاري مع العدو.
ظن العرب أنهم بشنّ هجومهم الكلامي العنيف على "نتنياهو وحكومته المتطرّفة" بحسب تعبير البيان قد أدّوا قسطهم للعلا فليس من مصلحة العرب والمسلمين رفع راية التحدّي في وجه ترامب "الحليف الافضل لـ"إسرائيل" في تاريخ أميركا"، كما أن التعقيدات الراهنة تستوجب الاستمرار بدور الوساطة التي تقوم بها قطر ومصر تحت مظلة الورقة الأميركية للحل في قطاع غزّة! وهنا يصدق القول: "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"، والمضحك في الأمر أن روبيو الذي ارتدى القلنسوة اليهودية وأدى طقوس التلمود مع نتنياهو بالتزامن مع انعقاد قمة الدوحة هو الذي سينسّق العودة إلى طاولة المفاوضات انطلاقًا من الدوحة!
يعتمد نتنياهو كما ترامب منذ عامين سياسة إطفاء النار بالمزيد من النار حتّى لا يبقى شيء قابل للاحتراق، أي بعبارة أخرى تحويل مسرح الحرب إلى أرض محروقة غير قابلة للحياة، وعليه فإن تخاذل العرب والمسلمين عن القيام بمبادرة فعلية رادعة على قاعدة: "لا يفل الحديد الا الحديد" سيشجع العدوّ على توسيع دائرة العدوان باتّجاه عواصم عربية وإسلامية أخرى بذريعة تواجد كوادر المقاومة الفلسطينية وحركة حماس على أراضيها، ومن غير المستبعد أن تسقط صواريخ نتنياهو مجدّدًا على أراضي قطر أو مصر أو تركيا، أما بالنسبة لسورية فقد أصبحت ارضًا مستباحة للعدو بكلّ ما للكلمة من معنى فيما يمعن في انتهاك سيادة لبنان وارتكاب جرائمه بحق شعبه دون أن تحرك الدولة اللبنانية ساكنًا الا من بيانات إدانة متقطعة بانتظار التأثر الأميركي ببكاء بعض مسؤولي حكومة نواف سلام.
على المقلب الآخر يبدو أن ترامب برّر ترجمة تعديل اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب بتواطئه المباشر في لعبة الخداع "الإسرائيلية"، وأجاد في أداء دوره في الكذب والمناورة، ولم تنفع تريليونات العرب وهداياهم النفيسة في كسب تعاطفه أو مراعاته لهم، بل كان مباشرًا في إسقاط مواقف بيانهم الفولكلوري ليدخل على خط تأجيج العدوان على الشعب الفلسطيني مهدّدًا حركة حماس بالقول: "لا تدعوا هذا يحدث والا ستسقط كلّ الرهانات. أطلقوا سراح جميع الرهائن فورًا"، وطالب نتنياهو بحسم القضاء على الحركة بأسرع وقت ممكن في تشريع مباشر للقتل واستباحة الأرواح والارزاق وارتكاب الجرائم بحق الشعب الفلسطيني.
لن تكون قطر الدولة الوحيدة من حلفاء واشنطن التي تتعرض للعدوان الصهيوني فسوف يتبعها حتمًا عدوان متسلسل يطال عواصم العرب والمسلمين بتواطؤ ودفع أميركي وصولًا إلى إخضاع شامل للعالم العربي والإسلامي لتصبح دوله كالنعاج التي تساق للذبح بلا حول ولا قوة وهذا ما يتطلبه "الشرق الأوسط الجديد"، فالكل يجب أن يكون خاضعًا من تلقاء نفسه على شاكلة المطبعين أما من يتجرأ على الرفض أو الممانعة فنموذج غزّة ينتظره بلا رحمة أو هوادة.
وحدهما إيران والمقاومة في لبنان تشكلان النموذج، فكلتاهما فرضتا على أميركا و"إسرائيل" وقف العدوان دون تحقيق أهدافهما في استباحة سيادتهما الوطنية، فحري بالدول العربية والإسلامية أن تعتمد هذا النموذج في مواجهة التحديات التي يفرضها ترامب ونتنياهو على المنطقة وشعوبها، اللهم إلا إذا كانت هذه الدول متواطئة على ذواتها وعلى شعوبها لتسلّم ترامب مفاتيح السيطرة على رقابها، أما والحال هذه يبقى الرهان على الأحرار من الشعوب لينتفضوا ويصوغوا مستقبلهم وقرارهم الحر بأيديهم.