مقالات مختارة

ناصر قنديل - صحيفة البناء
مهما حاول حكام البلاد العربية والإسلامية تفادي المواجهة مع التغوّل الإسرائيلي، فالمواجهة قدر لا مفر منه، والعلاقة العربية الإسلامية مع صانع القرار الأميركي لا يمكن أن تشكل ضمانة لتفادي حاجة الكيان إلى المزيد من التصعيد والمزيد من الجغرافيا مع المتغيرات البنيوية الداخلية في كيان الاحتلال في ظل تفاقم مأزقه الوجودي، ذلك أن الكيان الذي عجز عن إنهاء حروبه على لبنان وغزة واليمن وإيران بنصر ناجز، يدرك أن ما لم يُنجز في الميدان لن تستطيع واشنطن أن تهديه للكيان بالمداخلات السياسية، وفي لبنان لم تصمد المناورة الأميركية شهراً كاملاً حتى انهارت وفرضت المقاومة معادلتها القائمة على الارتباط الوجودي بين أيّ نقاش حول سلاح المقاومة ومستقبل الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية، وأي مسار سياسي في غزة مستحيل دون شروط الحد الأدنى للمقاومة المرتبطة بحماية السلاح ورفض التهجير، بينما هرب الأميركي وفشل الإسرائيلي في حرب اليمن ولا أفق سياسياً أو عسكرياً لتغيير المعادلة، أما في إيران فالعجز عن حسم الحرب عسكرياً واستبعاد العودة إليها أميركياً، يقيد كل بحث سياسي بشروط إيرانية بدأت تفرض إيقاعها كما يقول الاتفاق بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية برعاية مصرية، على طريق اتفاق بالتغاضي بدلاً من الاتفاق بالتراضي.
هذا الوضع المأزوم لكيان الاحتلال في ظل قيادة تملك قدرة الإمساك بقرار الحرب حتى انفجار الكيان أو انهياره، ومع صعود البعد الأيديولوجي الى الخطاب السياسي الإسرائيلي، حيث حلت نصوص “إسرائيل” الكبرى وأرض الميعاد وشعب الله المختار مكان تقارير الأمن الاستراتيجي وحسابات موازين القوى، سوف تصبح الحروب مستدامة وتبحث عن ساحات تلبس ثوب الجغرافيا ويمكن تحقيق الانتصارات فيها، ما يجعل العدوان على قطر بقدر ما هو محاولة للتخلص من قادة المقاومة، بداية لمسار توسيع جغرافيا الحرب، وإشارة واضحة لمكانة سورية في فرص الانتصار الذي تحتاجه “إسرائيل” الجديدة، حيث في سورية امتحان الأمن القوميّ لأربع دول إقليمية وازنة، تقف وراء النظام السوري الجديد وكان لها إسهام في إسقاط النظام السابق وعاشت رهان التفاعل الإيجابي من واشنطن وتل أبيب مع رعاية عربية تركية لسورية الجديدة، على قاعدة أخذ الأمن الإسرائيلي والمصالح الأميركية بالاعتبار، وفوجئت بالإصرار الإسرائيلي على احتكار مفهوم الأمن في سورية، وثلاث من هذه الدول عربية هي السعودية والإمارات وقطر، والرابعة هي تركيا، ورسالة قصف الدوحة لهم جميعاً عنوانها، إياكم والاقتراب من سورية دون الإذن الإسرائيلي.
إذا ترك العرب سورية سوف يأتي دور الأردن، وإذا تركت تركيا سورية صارت “إسرائيل” على حدودها، وسقطت تركيا الإقليمية وعثمانيتها الجديدة، ومهما عاش العرب والأتراك حالة الإنكار سوف يذكرهم الإسرائيلي بتصعيد غاراته اليومية في سورية بأن المواجهة لها بديل واحد هو الاستسلام، بينما غزة تتكفل بالصمود ولبنان قادر على التحمل، وسورية والعرب والأتراك مستهدفون ليس لأنهم مع المقاومة، أو لأنهم يقدمون الحماية لغزة أو ينفتحون على حماية المقاومة في لبنان، وعندما أرادوا توجيه رسالة تقول إنهم مستعدون لتسهيل مهمة “إسرائيل” في غزة ولبنان، بربط حل الدولتين بنزع سلاح المقاومة من جهة، ووضع ثقلهم لإنتاج قرار حكومي لبناني يتبنى ورقة المبعوث الأميركي توماس برّاك بنزع سلاح المقاومة اكتشفوا أن “إسرائيل” قادرة على هضم كل ما يقدم لها من تنازلات وتتمسك بالسعي للمزيد كما فعلت مع إسقاط النظام في سورية، فهي لا تعرف أن تقول شكراً ولا تتنازل عن غنيمة بداعي هضم أخرى، لأن الاستسلام يعني السقوط، فإن المواجهة قادمة حتماً مهما تأخرت.
أمس، كانت أولى الخطوات التي تؤكد ولادة جغرافيا سياسية وعسكرية جديدة في المنطقة، عبر الإعلان عن توقيع معاهدة دفاع مشترك بين السعودية وباكستان، وباكستان الدولة الإسلامية النووية، صديق للصين وإيران، وشارعها يغلي على إيقاع ما يجري في فلسطين، والمشاورات السعودية الإيرانية في إيقاع سريع وعلى جدول أعمالها ملفات ساخنة في لبنان واليمن وربما العراق، والتعاون السعودي الإيراني في هذه الساحات تحوّل لا يقل نوعية في الجغرافيا السياسية للمنطقة عن معاهدة الدفاع السعودية الباكستانية، بينما على ضفة مقابلة لا تستطيع تركيا التأخر عن تقديم جوابها على التهديدات الإسرائيلية في سورية، وعلى مسؤوليتها في أمن قطر وحمايتها، بحيث تتشكل في المنطقة ثلاثة أحلاف غير متنازعة، هي حلف سعودي باكستاني، وحلف إيران وقوى المقاومة، وحلف تركيا قطر مع سورية، حيث رعاية مصر للتفاهم بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية يقول إن مصر تتموضع أيضاً، وليست بعيدة عن المشهد الجديد.
المشهد ليس بعيداً عن مشهد ما كان عليه الوضع عشية حرب تشرين عام 1973 عندما ذهبت مصر وسورية إلى الحرب وذهبت السعودية ودول الخليج إلى توظيف سلاح النفط في الحرب، وما فعلته السعودية في المعاهدة مع باكستان فتح الباب لاستعادة مشهد قرار 1973، والتتمة التركية تنتظر، وتبقى سورية التي مثلت الهدية التي قدّمها العرب والأتراك لـ”إسرائيل” بوهم التحالف، هي المكان الذي يستطيع منه العرب والأتراك وضع حد للتغول الإسرائيلي وردع الشهية المفتوحة لقادة الكيان على حروب الإخضاع والإذلال، وعندها يصبح للقمة العربية الإسلامية القادمة كلمة في كيفية حل القضية الفلسطينية عبر حل الدولتين أو سواه، أما المقاومة فلها رب يحميها ولا تنتظر منكم إلا كفّ شروركم عنها وقد صارت رغماً عنها وعنكم خط الدفاع الأول عنكم.