مقالات

تكتسب مواقف رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو عشية رأس السنة العبرية أهمية تتجاوز الطابع البروتوكولي أو المناسباتي المعتاد. ففي حين درجت القيادات "الإسرائيلية" على استغلال هذه المناسبات لإطلاق مواقف عامة، جاء خطاب نتنياهو هذه المرة محمّلًا برسائل ذات طابع إستراتيجي متشابك مع التحولات الإقليمية والعملياتية الجارية. إن هذا الخطاب لا يمكن فهمه كتصريح سياسي فحسب، بل كجزء من عملية أوسع لصياغة السردية "الإسرائيلية" حول الحرب والردع وإعادة تشكيل البيئة الأمنية في المنطقة. ومن خلاله يمكن التقاط معالم موازين القوى، والعقبات البنيوية التي تحول دون تحقيق "إسرائيل" لأهدافها الكبرى، وكذلك موقع المقاومة في معادلة الردع الراهنة.
من ضمن ما يطرحه نتنياهو في خطابه ثلاث طبقات متداخلة من الرسائل. الطبقة الأولى هي تثبيت سردية "الإنجاز الإسرائيلي" ضدّ حزب الله، وتقديم هذا الإنجاز باعتباره "نافذة سلام" غير مسبوقة مع جيران الشمال. هنا يتضح أن نتنياهو يربط بين استهداف المقاومة وبين فتح مسارات سياسية مع الدول أو المجتمعات المحيطة، في إقرار صريح بأن العقبة الوحيدة أمام إخضاع المنطقة هي بقاء حزب الله كفاعل مقاوم.
الطبقة الثانية هي التهديد الضمني باستمرار العمل العسكري لتثبيت الوقائع الجديدة وتحويل الإنجازات العملياتية إلى مكتسبات إستراتيجية طويلة المدى. قوله الصريح بأن "إسرائيل" "عازمة على تحقيق أهداف الحرب ليس في غزّة فقط بل في الساحات الأخرى" يكشف نية مراكمة القوّة لا الاكتفاء بعمليات محدودة.
الطبقة الثالثة تتعلق بالاعتراف الضمني بالصعوبات. فالتشديد على "عدم التراجع" يكشف أن "إسرائيل" محكومة بحالة اندفاع إستراتيجي يصعب التراجع عنها، لأن أي انكفاء يعني تآكل الردع وتغيّر بيئة القوّة بشكل سلبي لصالحها.
دور المقاومة في قلب المعادلة
ينبغي قراءة تصريحات نتنياهو على خلفية واقع حزب الله بعد حرب 2006. فالمعادلة التي أرستها المقاومة -من توازن الردع إلى تثبيت معادلات الحماية الداخلية- هي التي حالت حتّى الآن دون تحويل لبنان إلى ساحة مفتوحة للهندسة الإقليمية على الطريقة "الإسرائيلية". إن بقاء حزب الله في المشهد يشكّل "عامل كبح" حاسمًا لأي مغامرة كبرى أو محاولة فرض وقائع جيوسياسية على حساب لبنان وشعبه. هذه النقطة تحديدًا تقلب رواية نتنياهو رأسًا على عقب: فهي من جهة عقبة جدية أمام "السلام الإسرائيلي"، أي اخضاع المنطقة، ومن جهة أخرى عامل توازن يُبقي الباب مفتوحًا أمام الترتيبات الواقعية.
من خلال التدقيق في نصوص نتنياهو وأقوال أركان العدوّ الآخرين، يظهر بوضوح أن "إسرائيل" لم تستكمل بعد مشروعها في المنطقة. تصريحات رئيس الأركان إيال زامير حول أن "النجاح "الإسرائيلي" جاء بعد إعداد دام سنوات" تلمّح إلى أن هذا الإعداد لم يبلغ غايته النهائية، وأن القيادة "الإسرائيلية" ترى نفسها وسط معركة طويلة الأمد. ويؤكد اللواء تامير هايمن، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، هذا المعنى حين يقرّ بأن الوضع الأمني "الإسرائيلي" أفضل من العام الماضي لكن الأمن القومي بات أكثر خطورة. هذا التناقض يعكس مأزقًا إستراتيجيًا: نجاح تكتيكي مقابل تصاعد الخطر البنيوي.
المقاومة كخيار وحيد
في ضوء هذا السياق، تتبلور رؤية إستراتيجية مقابلة. إن المقاومة لم تعد مجرد خيار ضمن بدائل، بل باتت "الخيار الوحيد المجدي" كما ينعكس في وعي جزء واسع من الجمهور والمحللين. فما كان يُقال قبل سنوات ولم يلقَ الصدى الملائم أصبح اليوم أكثر وضوحًا: لا بديل عن المقاومة سوى المزيد منها، تعزيزًا للاستعداد واستخلاصًا للعبر. هذا المنطق لا يستند إلى شعارات، بل إلى قراءة دقيقة لتوازن القوى. فغياب المقاومة أو إضعافها يفتح الطريق أمام إعادة هيكلة المنطقة وفق المصالح "الإسرائيلية"، فيما بقاؤها يعقّد هذا المشروع ويجعل أي تسوية محتملة أكثر توازنًا.
البنية النفسية والسياسية لخطاب نتنياهو
اللافت في خطاب نتنياهو أنه يجمع بين لهجة التفوق والغطرسة من جهة، ولغة القلق الإستراتيجي من جهة ثانية. فهو يتحدث عن "فرص للنصر والسلام" لكنّه في الوقت ذاته يقرّ بأن الحرب لم تنته بعد وأن "إسرائيل" لا تستطيع العودة إلى الوراء. هذا الازدواج يعكس إدراكًا عميقًا بأن البيئة المحيطة لم تعد كما كانت، وأن القوّة العسكرية مهما تعاظمت لا تكفي بمفردها لفرض الاستقرار وفق الشروط "الإسرائيلية".
يُظهر التحليل العميق لخطاب نتنياهو أن "إسرائيل" تقف اليوم على مفترق طرق إستراتيجي: فهي تمتلك قوة عملياتية ضخمة وقدرة على إلحاق الأذى، لكنّها عجزت حتّى الآن عن تحويل هذا التراكم إلى إنجاز سياسي إستراتيجي نهائي بسبب وجود المقاومة كفاعل موازن. وفي المقابل، تعيد المقاومة تثبيت نفسها ليس كأداة ردع فحسب، بل كعنصر بنيوي في معادلة الإقليم. هذه الصورة تفرض قراءة جديدة للواقع: أن ميزان القوى لا يُختزل بالقوّة العسكرية ولا بالتصريحات السياسية، بل بتفاعلهما مع إرادة الفاعلين المحليين والإقليميين.
إن الخلاصة الجوهرية أن أي محاولة لإعادة هندسة المنطقة من فوق ستصطدم دائمًا بوقائع الأرض وبقدرة القوى المقاومة على تعطيل المشاريع الكبرى أو تعديلها. ويعكس الأداء الأميركي "الإسرائيلي" السياسي والعملياتي، حقيقة أن المقاومة عصية على الاخضاع. هذه هي المفارقة التي يحاول الخطاب "الإسرائيلي" إخفاءها لكنّها تظل واضحة لمن يقرأ بين السطور.