اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي كاتب أميركي: سياسات ترامب تزيد الخطر على أميركا من "السلفية الجهادية"

مقالات

المعضلة الإيرانية في
مقالات

المعضلة الإيرانية في "تل أبيب" وواشنطن: أزمة الخيارات الكبرى وحدود القوّة والاستدامة

84

تنطلق هذه القراءة من فرضية مركزية مؤداها أن سياسة الانفاذ "الإسرائيلية"، كما جرى تطبيقها في غزّة ولبنان، هي أداة تكتيكية قابلة للتنفيذ في ساحات شبه - دولتية أو كيانات منقوصة السيادة، لكنّها تتحول إلى عبء إستراتيجي عندما تُسقط على دولة تمتلك عمقًا سياديًا، وقدرة عالية على التعافي، ونظامًا سياسيًا-أمنيًا لم يُصَب في جوهره. فإيران، بخلاف غزّة ولبنان، ليست ساحة يمكن ضبطها أو احتواؤها، بل فاعل دولتي يسعى، عن وعي وتخطيط، إلى إعادة بناء توازن الردع تدريجيًا، وبكلفة محسوبة، وتحت عتبة الحرب الشاملة. ومن هنا، فإن جوهر الإشكال لا يكمن في قدرة "إسرائيل" على توجيه الضربات، بل في قدرتها على تحويل الفعل العسكري إلى نتيجة سياسية-إستراتيجية مستدامة، وتحمل أثمانه.

في هذا السياق، تكشف إيران، وفق منطق سلوكها الراهن، عن نية واضحة لتجنّب المواجهة الشاملة، مع الإبقاء على مسار تصاعدي مدروس في بناء القوّة. فهي لا تتخلى عن مشروعها النووي، لكنّها تتبع إزاءه سياسة الغموض، وفق القراءة "الإسرائيلية"، وتتجنب إعادة بنائه بوتيرة تفرض ردًا أميركيًا مباشرًا. وفي المقابل، تركّز على ترميم أدوات الردع الأقل حساسية سياسيًا، وفي مقدمتها منظومة الصواريخ الباليستية، التي تُعدّ، من المنظور الإيراني، خط الدفاع الرئيسي بعد أن ثبتت فعاليتها في مواجهة الحرب الأميركية-"الإسرائيلية"، وفي أي مواجهة عسكرية محتملة لاحقًا أو اعتداءات خارجية مستقبلية.

"إسرائيل"، في المقابل، تتحرك بدافع وقائي ذي طابع هجومي، يهدف إلى منع إيران من تطوير قدراتها الصاروخية وغير الصاروخية، استنادًا إلى العبر المستخلصة من الحرب الأخيرة. وفي هذا الإطار، تُطرح مجموعة من الخيارات، من بينها محاولة إسقاط نموذج غزّة ولبنان على الساحة الإيرانية. غير أن هذه الساحة تختلف جذريًا في طبيعتها، وفي قدراتها، وفي مزاياها "الجيوستراتيجية"، ما يفضي إلى تناقض بنيوي بين النية (المنع) والأداة (الاستنزاف المتكرّر).

أما الولايات المتحدة، فتتحرك ضمن هامش أضيق وأكثر انتقائية، يتمحور حول تحييد الخطر النووي حصرًا. فإسقاط النظام الإيراني يُعدّ مخاطرة عالية الكلفة وغير مضمونة النتائج، ويتعارض مع أولويات العقيدة الأميركية العالمية. وبهذا المعنى، فإن واشنطن تتقاطع مع "إسرائيل" في عناوين محدّدة، لكنّها لا توفر لها غطاءً مطلقًا أو "شيكًا على بياض".

ويُضاف إلى ذلك أن إيران تمتلك قدرة على الإنتاج الصاروخي يبدو أنها تجاوزت التقديرات الأميركية-"الإسرائيلية". وضمن هذا الإطار، تشير التقارير في "تل أبيب" إلى أن طهران تعمل على إعادة بناء منظومة إطلاق أكثر تحصينًا، انطلاقًا من استيعاب دروس الحرب الأخيرة. ويمنحها ذلك هامشًا أوسع في المبادرة والرد الصاروخي، ويسلب "إسرائيل" جزءًا من الإنجازات التكتيكية التي حققتها في الحرب السابقة، كما يرفع كلفة أي محاولة "إسرائيلية" لكسر المعادلة بالقوّة.

في المقابل، تمتلك "إسرائيل" تفوقًا استخباراتيًا وهجوميًا نوعيًا، وقدرة على توجيه ضربات دقيقة بعيدة المدى، فضلًا عن منظومات دفاع متقدمة. غير أن هذه القدرات، على أهميتها، تعاني من محدودية في الفعالية والاستدامة: كلفة مالية مرتفعة، استنزاف سريع للمخزون الدفاعي، وخطر دائم يتمثل في قدرة الخصم على اختراق المنظومة، ولا سيما أن صاروخًا إيرانيًا واحدًا قادر على إحداث أضرار هائلة، كما ثبت في أكثر من ضربة خلال الحرب السابقة، فكيف إذا ارتفعت الوتيرة، وتطورت التقنيات، واتسع هامش المبادرة الإيرانية؟.

هنا تتجلى المفارقة الأساسية:

إيران تبني قدراتها في ظل غياب قيود ردعية مانعة، بينما تُدار القدرة "الإسرائيلية" بمنطق الرد الفوري.

ولا يعني ذلك أن إيران لا تواجه قيودًا على الإطلاق؛ فهي تعمل ضمن حسابات متعددة، تشمل تجنب دفع الولايات المتحدة إلى الحرب، وضغوطًا اقتصادية، وانقسامات داخلية، وربما صعوبات تقنية في بعض المكونات. إلا أن هذه القيود تدفعها إلى الالتفاف والتدرّج، لا إلى التراجع.

في المقابل، تبدو القيود "الإسرائيلية" أكثر تعقيدًا وتركيبًا: فهي غير قادرة على إسقاط النظام الإيراني، ولا تستطيع تحمّل استنزاف طويل الأمد في ظل الردود الإيرانية المتوقعة، كما لا يمكنها تجاوز الموقف الأميركي. وحتّى نجاح الدفاع لا يلغي الخطر، بل يؤجّله، فيما تبقى كلفة المفاجأة وإمكانية اختراق المنظومات ذات أثر إستراتيجي بالغ.

أما القيد الأميركي، فيظل الأكثر حساسية. فـ"إسرائيل" لا تستطيع التفرد بقرار شن حرب على إيران، لأسباب عملياتية تتصل بالهجوم والدفاع، كما أثبتت الحرب الأخيرة. ويضاف إلى ذلك تلمّس نوايا أميركية لتأجيل الملف الإيراني، ولو مرحليًا، ما يعني عمليًا الإثقال على "تل أبيب" وضمن هوامش صارمة ومقيّدة.

في ضوء هذه المعادلة، تتبلور الخيارات لا بوصفها بدائل متكافئة، بل كمسارات ذات أثمان متفاوتة. فالمبادرة إلى سياسة استنزاف عسكري داخل إيران، على غرار ما يجري في غزّة ولبنان، تنطوي على كلفة باهظة نتيجة الردود الإيرانية واحتمال الانزلاق إلى نفق استنزاف متبادل بلا أفق حاسم، وهو خيار يفتقر إلى الاستدامة.

في المقابل، يطرح خيار حصر العمل العدواني بضربة وقائية تستهدف منع إعادة بناء القدرة النووية فقط، لكنّه خيار محفوف بالمخاطر، إذ يمنح إيران هامشًا واسعًا لمراكمة قدراتها الصاروخية، التي إذا بلغت مستوى معينًا قد تدفع طهران إلى تسريع برنامجها النووي، فتجد "إسرائيل" نفسها وقد وقعت في فخ إستراتيجي معاكس.

أما خيار إسقاط النظام، فهو يتجاوز القدرات "الإسرائيلية" الواقعية، فضلًا عن أن المحاولة الأخيرة انتهت إلى الفشل وأفضت إلى نتائج معاكسة. ويبقى الخيار البديل متمثلًا في رهان "تل أبيب" على إقناع الرئيس ترامب بتبنّي مقاربة أكثر تشددًا، عبر مواكبة "إسرائيل" سياسيًا وعملياتيًا في استهداف مقومات الدولة والنظام، ومحاولة إضعافه وفتح المجال أمام معارضيه بدعم خارجي. غير أن هذا المسار مشروط، في مقدماته، بمنع إيران من مواصلة تطوير قدراتها الصاروخية.

في الخلاصة، يتأكد لصنّاع القرار في "تل أبيب" أن إيران ليست ساحة يمكن ضبطها بالضربات. فما نجح - جزئيًا - في لبنان، يتحول في الحالة الإيرانية إلى فخ استنزافي. والتحدي الجوهري أمام "إسرائيل" أنها غير قادرة على إنهاء التهديد الصاروخي وغيره بقدراتها الذاتية، بل إن أي محاولة من هذا النوع قد تفضي إلى نتائج معاكسة لتطلعاتها. ومع أن هذه القيود تشكّل قاعدة صلبة لاستشراف مستقبل المعادلات، إلا أنها تضع "تل أبيب" وواشنطن أمام معضلة جدية، ترى فيها "إسرائيل" فرصة لدفع الولايات المتحدة نحو خيارات أكثر دراماتيكية. غير أن هذه الفرضية تصطدم بدورها بالأولويات الأميركية وبالحرص البنيوي على تجنب التورط في حروب واسعة ومفتوحة في المنطقة.

الكلمات المفتاحية
مشاركة