مقالات
كاتب من مصر
في الرابع من كانون الأول/ديسمبر الجاري، أصدر البيت الأبيض وثيقة الأمن القومي الأميركي، وهي وثيقة دورية تصدرها الإدارات الأميركية منذ العام 1986 لاستعراض التحديات التي تواجه الأمن القومي وسبل المواجهة والإدارة، بحيث تكون واجهة للإدارة أمام الكونغرس والشعب الأميركي، وكذلك دول العالم المختلفة.
هذه الوثيقة غير ملزمة، قد تطرأ عليها تغييرات، وهي تتضمن بالطبع بنودًا سرية، أما ما نشر منها فبهدف إيصال رسائل إلى مختلف الجهات الداخلية والخارجية.
وقبل القراءة في محتوى الوثيقة ومحاولة استخلاص ما تعكسه من تغيرات وما تنبئ به من سيناريوهات، ينبغي التوقف أمام التعاطي الإعلامي والتحليلي للوثيقة في الداخل الأميركي وفي منطقتنا، لأن تحليل الوثيقة ونشر الاستنتاجات لم يتسم بالموضوعية واتسم تارة بالتسرع في استخلاص العناوين الساخنة البرّاقة، وتارة بالتسييس وتزييف العناوين وفقًا لميول وتبعية الجهات الناشرة.
ومن يرصد استخلاصات جهات متعددة قامت بتحليل الوثيقة يرى عناوين مثل "نهاية عصر العولمة"، أو "العزلة الأميركية في نصف الكرة الغربي"، أو "الصدام مع أوروبا"، أو "التحولات الجذرية في السياسة الأميركية"، وهي تحليلات تتسم بالاستسهال أو الاعتماد على تحليل "الذكاء الاصطناعي" أو اعتمدت على النقل والتواتر من تحليلات أخرى دون قراءة الوثيقة الرسمية وبذل جهد حقيقي في التحليل والربط مع السياقات التاريخية أو الربط مع طبيعة أميركا ذات الإستراتيجيات الممتدة التي لا تعتمد على إدارة بعينها لتحدث انقلابًا أو تحولًا جذريًا.
ومن الناحية الشكلية، فقد جاءت الوثيقة مختصرة مقارنة بسابقاتها، كما أشاد عدد من خبراء الوثائق الأميركية ببلاغتها ودقة مصطلحاتها، وهي اتبعت نهجًا منطقيًا وبناءً إستراتيجيًا يشي بكفاءة القائمين عليها.
وهنا يمكن استخلاص ملاحظة تتعلق باعتماد الولايات المتحدة الأميركية في المرحلة الحالية على المظاهر البرّاقة واللغة الخطابية الدعائية بعيدًا عن اللغة الخشنة والمصطلحات الجامدة، وهو ما يتسق مع محاولة الاتّجاه نحو الإدارة والتي لها لغتها وأسلوبها المختلفان عن لغة وأسلوب الانخراط المباشر في التنفيذ.
ومن ناحية المضمون، فإن افتتاحية الوثيقة قامت على مجموعة من الأكاذيب الكبرى مثل إرساء ترامب للسلام في الأشهر التسعة الماضية في الجبهات المختلفة من العالم، وتدمير قدرة إيران النووية وتحقيق السلام في غزّة، ما يشي بأن العناوين الكبرى في الإستراتيجية أيضًا كاذبة، وهو ما كشفته تحليلات خبراء أميركيين في معهد "بروكنغز" ممن رصدوا تناقضات بين العناوين والإجراءات في مختلف جنبات الوثيقة مثل تصوير الإستراتيجية لترامب على أنه "رئيس السلام"، في الوقت الذي يُصدر فيه أوامر بعمليات عسكرية غير قانونية في منطقة الكاريبي، وتشمل التحذير من مخاطر حروب تغيير الأنظمة، بينما يبعث الرئيس بحملة لتغيير النظام في فنزويلا، ومثل ما ورد في الوثيقة من أن "جميع البشر يمتلكون حقوقًا طبيعية متساوية وهبها الله لهم"، في تناقض واضح مع المعاملة القاسية للمهاجرين والتخفيض الحاد في قبول اللاجئين، وغيرها من التناقضات.
ويمكن الخوض في أهم ما يمكن استخلاصه من الوثيقة برصد العناوين الآتية:
1 - الوضع الإمبراطوري والسياق المصاحب لصدور الوثيقة:
تمر الولايات المتحدة بمراجعة إستراتيجية حقيقية بعد عقود من محاولة الهيمنة على الأرض بشكلها التنفيذي والانخراط المباشر في العسكرة والصراعات بعد انهيار سور برلين ونهاية الحرب الباردة، وهو ما شكل كلفة اقتصادية وبشرية. كما أن سياسة العولمة انقلب سحرها على الساحر واستطاعت الصين استغلالها لصالحها لتصبح قطبًا اقتصاديًا منافسًا بقوة، بل واستطاعت اختراق السوق الأميركي الداخلي. كما أن الغطرسة الأميركية في التعاطي مع الدول المختلفة خلقت استقطابًا نحو القوى الأخرى التي لا تتدخل في الشؤون الداخلية أو تلقي الإملاءات مثل الصين وروسيا وهو ما هدّد سلسلة التحالفات الأميركية. والأهم أن قوى المقاومة استطاعت إسقاط الردع الأميركي ولم تعبأ بالتهديدات وأجبرت أميركا على الكذب والتخفي واستخدام مساحيق التجميل السياسية.
من هنا جاءت الوثيقة لتصدر بعض العناوين بما يشبه المراجعات لحفظ الهيبة وإلقاء التهمة على إدارات ونخب سابقة ولتعمل أيضًا على ذات الأهداف الاستعمارية ولكن بشكل أكثر احتياطًا في الإعلان ومن وراء الستار وبتوريط لدول أخرى في معظم الجبهات.
2 - الهيمنة و"أميركا أولًا" إستراتيجية ثابتة وليست جديدة:
ذهبت معظم التحليلات إلى أن الولايات المتحدة غيّرت إستراتيجيتها بالتوجّه نحو شعار "أميركا أولًا"، وهي مغالطة لأن أميركا طوال تاريخها تعمل وفقًا لهذا الشعار وفي إطار تدخلاتها ومساعداتها وعقد تحالفاتها كانت ولا تزال تعمل للصالح الأميركي، وربما فقط أفصحت أميركا في هذه الوثيقة عن بعض الآليات الصريحة دون مواربات بسبب الاضطرار إلى المكاشفة للتخلص من بعض أعباء التحالفات غير المتكافئة وكذلك تبرير تغيير نسق العولمة الفاشل بتحرير التجارة لنمط عولمة آخر يقوم على الاحتكارات والعولمة المالية وليس التجارية بإفساح الطريق للشركات الأميركية والتضييق على الشركات المنافسة واستخدام القوّة في السيطرة على طرق التجارة والمضائق وتهديد الدول الطامحة لتنويع شراكتها الاقتصادية للحفاظ على الدولار كعملة احتياطي نقدي دولية.
وبالتالي فإن الهيمنة هي إستراتيجية ثابتة، وأميركا تغير فقط التكتيكات والإستراتيجيات الفرعية حتّى لا تتورط في صراعات عسكرية في وضع غير ملائم ولا مضمون تحقيق النصر به، وباستخدام سياسات الردع والضغط على الحلفاء.
3 - مبدأ مونرو يختلف عن الانعزالية:
ذهبت بعض التحليلات لوصف الإستراتيجية الأميركية بالانكفاء والانزواء في محيطها والانسحاب من المناطق الأخرى بسبب تفعيل "مبدأ مونرو" وإعطاء الأولوية لنصف الكرة الغربي والأميركيتين، بينما التأمل في كامل الوثيقة ورصد التحركات الأميركية العملية، يقول إن استخدام "مبدأ مونرو" هو إجراء هجومي عدواني، وقد حدث خلط مشابه في عصر جيمس مونرو، حيث تصور البعض أن إعلانه يشكّل عزلة دولية مشابهة لمبدأ جورج واشنطن، بينما حقيقة الأمر كانت منع أوروبا من التوغل والسيطرة على نصف الكرة الغربي تمهيدًا لبسط السيادة الأميركية كنقطة انطلاق للهيمنة لاحقًا.
وبالتالي فإن تفعيل المبدأ بتحديثات ترامب واستخدامه مع روسيا والصين في أميركا اللاتينية، هو إجراء هجومي على أميركا اللاتينية ومصالح روسيا والصين وربما إيران مع الحفاظ على التدخل الأميركي في بقية أنحاء العالم بما فيها المحيط الصيني والروسي.
4 - التحالف مع اليمين الأوروبي وليس الصدام مع أوروبا:
لا تستطيع أميركا الصدام مع أوروبا وتركها فريسة للتحالف مع روسيا أو الصين، ولكن ما جاء في الوثيقة هو هجوم خفي على الاتحاد الأوروبي لكونه منظمة بيروقراطية لا تتماشى مع الأيديولوجية الأميركية المرحلية بل وتشكّل عائقًا أمام تكتيكاتها الاقتصادية المتعلّقة بسياسات الهجرة وسلاسل التوريد، وهي تفضل اليمين الشعبوي الأوروبي المتطابق مع رؤية أميركا في هذه المرحلة المفصلية من النظام العالمي، وبالتالي هي دعوة لتثوير اليمين في بقية القارة لأن ما يهم أميركا التحالفات الموثوقة وليس التكتلات الاسمية.
5 - الاعتراف بقوة وتأثير المقاومة:
بدا في الوثيقة ملامح تأثر أميركا بقوى المقاومة وتحديدًا في ما يتعلق بالحديث عن الصناعات الدفاعية وكيف استخدمت المسيرات والصواريخ في تحييد وإفشال الدفاعات الصاروخية باهظة الثمن، وهو ما يحتم إنتاج دفاعات متطورة ومنخفضة الكلفة، وكذلك ظهرت انعكاسات نجاح المقاومة في تهديد المصالح الأميركية في المضائق والبحار في إشارة خفية إلى إيران واليمن، كما اشترطت هدوء واستقرار "الشرق الأوسط" للصالح الأميركي بزوال قوى المقاومة.
6 - الاعتراف بتدجين النظام العربي:
في إطار الحديث عن "الشرق الأوسط" وما بدا أنه تراجع في الأهمية، أكدت الوثيقة أنه لا يزال مهمًا ولكن مخاوف أميركا تقلصت، ولم تكن زلة لسان أميركية، عندما اعترفت الوثيقة بأن مؤتمر شرم الشيخ، كان إعلانًا جماعيًا للاستسلام، عندما قالت الوثيقة نصًا أنه: (بات يُنظر إليه كمكان للشراكة والصداقة والاستثمار، وهي نزعة ينبغي الترحيب بها وتشجيعها. وفي الواقع، فإن قدرة الرئيس ترامب على توحيد العالم العربي في شرم الشيخ سعيًا للسلام والتطبيع ستُمكّن الولايات المتحدة أخيرًا من إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية).
7 - الخلاصة والانعكاسات على منطقتنا العربية والإسلامية:
نستطيع أن نستخلص أن أميركا ثابتة على مبدأ الهيمنة والعدوانية وتمتين التحالفات بشكل صريح يخلو من الضبابية ويخلو من التسامح في بعض التمايزات وقد أفصحت عن وجهها الاستبدادي ولم تعد تعتني بالقوّة الناعمة المعتمدة على قضايا الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، وبالتالي فإن الأنظمة العربية قد تعيش في حالة طمأنينة من الضغوط السياسية ولكنها طمأنينة زائفة لأنها في المقابل مطالبة بتلقي إملاءات حرجة لتحقيق المصالح الأميركية وهذه الإملاءات قد تتعارض مع أمنها القومي وخطابها الشعبي الحريص على التغني بالثوابت ودعم القضية الفلسطينية.
كما أن أميركا ستعمل عبر الوكلاء وتستمر في ممارسة النفاق السياسي تحت ذريعة "السلام"، وتعمل على التموضع والسيطرة على الموارد الاقتصادية والممرات والطاقة.
كما أن قوى المقاومة مطالبة بالجهوزية لأن شكل المعارك وتحالفاتها قد يتغير فقد تواجه بمعارك صريحة من الأنظمة العربية وقد تواجه مزيدًا من العزلة بسبب محاولة تسييد نظام إقليمي تطبيعي تصبح المقاومة فيه مروقًا وإرهابًا رسميًا.
والمقاومة دومًا تعدّ عدتها لأسوأ السيناريوهات ولم تعتمد يومًا على رهانات زائفة تتعلق بقوى دولية أو حتّى إقليمية، واعتادت على الصمود في مناخ من الخذلان والغدر، وللمقاومة أن تفخر بأنها دومًا صاحبة القراءة الرشيدة والصائبة للصراع الدولي ولأميركا وتمتلك الوعي بأن الإدارات المختلفة هي أوجه لعملة واحدة ومنفذ لإستراتيجية ثابتة وبالتالي لا يستطيع أحد ولا تستطيع وثيقة أن تتلاعب بها أو تناورها أو تشكّل عليها حربًا نفسية.