اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي كاريكاتور العهد

نقاط على الحروف

الهيمنة والإسناد: كيف شكّل نصر الله معادلات الردع لحماية فلسطين؟
نقاط على الحروف

الهيمنة والإسناد: كيف شكّل نصر الله معادلات الردع لحماية فلسطين؟

116

في لحظات مفصلية من تاريخ "الصراع العربي-الإسرائيلي"، برزت شخصيات شكلت انعطافات كبرى في وعي الأمة، وفي بناء معادلات القوّة. سماحة السيد حسن نصر الله، الذي ارتقى شهيدًا على طريق القدس، لم يكن فقط قائد مقاومة لبنانيًّا، بل عقلًا إستراتيجيًّا أعاد صياغة فكرة المقاومة نفسها، وحوّلها من فعل محلي محدود إلى مشروع إقليمي متماسك. في الذكرى الأولى لاستشهاده، يصبح من الضروري تفكيك إرثه لفهم الكيفية التي ساهم بها في حماية فلسطين، وصوغ معادلات ردع حقيقية أربكت الهيمنة "الإسرائيلية" والأميركية.
من الأيديولوجيا إلى الإستراتيجيا
لم يكن السيد نصر الله خطيبًا مؤثرًا فقط، بل كان مفكرًا في سياق معركة التحرر. منذ تسلمه القيادة بعد استشهاد السيد عباس الموسوي عام 1992، أعاد بناء الأيديولوجيا المقاومة بما يتجاوز حدود الطائفة أو الإقليم. فالقضية الفلسطينية، في خطابه، لم تكن مجرد مسألة قومية أو دينية، بل قضية إنسانية كبرى تختبر صدقية القيم العالمية: الحرية، والعدالة، والتحرر من الاستعمار. هذا التحويل الأيديولوجي سمح له بتجاوز الانقسامات العربية والإسلامية، ووضع فلسطين في مركز أي معادلة مقاومة.
أعاد السيد نصر الله الاعتبار إلى فكرة المقاومة المسلحة كخيار وحيد ضدّ الاحتلال. ففي مرحلة ما بعد "اتفاق أوسلو"، حيث ساد الإحباط والانسحاب العربي، قدم نموذجًا عمليًا يُظهر أن "إسرائيل" ليست قدرًا محتومًا، بل هي كيان يمكن كسر أسطورته العسكرية عبر الصمود والتكتيك الذكي.
حرب تموز ونقض أسطورة الجيش الذي لا يُقهر
عام 2006 شكّل نقطة تحول كبرى. فحرب تموز لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل لحظة سياسية كشفت هشاشة المشروع الصهيوني. "إسرائيل"، التي روّجت لنفسها باعتبارها قوة لا تُقهر، وجدت نفسها عاجزة أمام صواريخ المقاومة اللبنانية وصمودها. كان السيد نصر الله يدرك البعد النفسي للصراع، لذلك أطلق عبارته الشهيرة: "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت". لم تكن العبارة مجرد دعاية، بل إستراتيجية تستهدف البنية المعنوية للمجتمع "الإسرائيلي".
بهذا الفعل، نقل السيد نصر الله المعركة إلى العقول. فالمعادلة لم تعد حول موازين السلاح فقط، بل حول الثقة بقدرة "إسرائيل" على حماية مجتمعها. ومن هنا، أخذت فكرة الردع بعدًا جديدًا: ليس فقط منع العدوّ من الهجوم، بل زرع الشك في جدوى مغامراته العسكرية.
من لبنان إلى فلسطين: الإسناد المتبادل
المقاومة في لبنان لم تكن مشروعًا معزولًا. منذ التسعينيات، قدّم حزب الله بقيادة السيد نصر الله دعمًا متصاعدًا لفصائل المقاومة الفلسطينية: تدريب، خبرة، إمداد بالسلاح، ونقل تجربة حرب العصابات. لكن الأهم كان بناء عقل إستراتيجي فلسطيني يتغذى من التجربة اللبنانية.
في انتفاضة الأقصى الثانية (2000-2005)، ومع صعود العمليات الاستشهادية، ظهر أثر واضح لهذا الدعم. أما في العقدين الأخيرين، فقد أصبح الإسناد أكثر وضوحًا: نقل تكنولوجيا الصواريخ الدقيقة، بناء شبكات أنفاق، وتطوير منظومات حرب إلكترونية وطائرات بلا طيار. هذا التكامل لم يكن عسكريًا فقط، بل أيديولوجيًا، حيث نجح السيد نصر الله في صياغة خطاب يوحد حماس والجهاد الإسلامي مع محور المقاومة رغم التباينات الفكرية.
حرب الإسناد لغزّة: معركة أخلاقية وإستراتيجية
في حرب غزّة الممتدة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، برز الدور المركزي للسيد نصر الله في إدارة ما سُمّي "حرب الإسناد". لم يندفع حزب الله إلى مواجهة شاملة غير محسوبة، لكنّه فرض على "إسرائيل" معادلات متحركة أربكتها. فتح جبهة الجنوب اللبناني بالوتيرة التي يختارها، واستخدم المسيرات والصواريخ النوعية لإرهاق "الجيش الإسرائيلي"، بينما ظل يحتفظ بأدوات تصعيد أوسع كورقة ضغط إستراتيجية.
المهم أن هذا الإسناد لم يكن عسكريًا فقط. فخطابه ركّز على البعد الأخلاقي: حزب الله لا يساوي بين المعتدي والمعتدى عليه، بل يميز بين استهداف مواقع "عسكرية "إسرائيلية" وبين المجازر التي ترتكبها "إسرائيل" ضدّ المدنيين في غزّة. هذا الخطاب مكّن المقاومة من احتلال موقع أخلاقي أمام الرأي العام العالمي، في لحظة بدأت فيها رواية "إسرائيل" تنهار تحت ضغط صور المجازر.
معادلات الردع: من الجنوب إلى القدس
الردع الذي بناه السيد نصر الله لم يقتصر على الحدود اللبنانية. عمليًا، أي مواجهة في غزّة أصبحت مرتبطة بحسابات حزب الله. "إسرائيل" تدرك أن أي حرب شاملة على القطاع قد تفتح جبهات أخرى، من الجنوب اللبناني إلى الجولان وربما البحر الأحمر. هذه المعادلة جعلت حماية غزّة مرتبطة عضويًا بقدرة حزب الله على فرض التوازن.
في طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023)، ظهر التنسيق بين الجبهات بوضوح: فصائل فلسطينية تخوض حرب المدن في غزّة، بينما حزب الله يضغط على الشمال، في وقت تُستنزف فيه "إسرائيل" داخليًا بالانقسام السياسي والاقتصادي. هنا تتجلى فلسفة السيد نصر الله: تحويل أي حرب جزئية إلى معركة إقليمية تُحاصر "إسرائيل" وتفقدها القدرة على المبادرة.
البعد العالمي: تفكيك الهيمنة المعلوماتية
أحد أعمدة إرث السيد نصر الله هو الوعي الإعلامي. فقد أدرك مبكرًا أن السيطرة على السردية لا تقل أهمية عن السلاح. اعتمد خطابًا مزدوجًا: تعبوي لجمهور المقاومة، وتحليلي يستهدف الرأي العام العالمي. في خطاباته، فضح ازدواجية الغرب الذي يتشدق بحقوق الإنسان بينما يغطي جرائم "إسرائيل". بهذا، أسس لنقض الرواية الصهيونية في الإعلام العالمي، وساهم في مراكمة موجة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين التي شهدناها لاحقًا.
الشهادة: اكتمال الدور على طريق القدس
استشهاد السيد نصر الله لم يكن خاتمة لمسيرته بقدر ما كان تكريسًا لفكرته الأساسية: أن المقاومة مشروع لا يُختزل في الأفراد. فهو بنى مؤسسات وهيكليات قادرة على الاستمرار، وربط لبنان بفلسطين ضمن منظومة إقليمية متماسكة. استشهاده على طريق القدس يرمز إلى اكتمال الدور الذي حمله طوال حياته: تحويل تحرير فلسطين من شعار إلى مشروع عملي مدعوم بالدم والسلاح والفكرة.
إرث السيد نصر الله يواجه تحديات جسيمة: محاولات التطبيع "العربي-الإسرائيلي"، الضغوط الاقتصادية على محور المقاومة، والانقسامات الفلسطينية الداخلية. لكن قوة الفكرة التي أسس لها، والمتمثلة في توازن الردع، جعلت المقاومة لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أي معادلة سياسية أو عسكرية في المنطقة.
التحرير لم يتحقق بعد، لكن مشروع السيد نصر الله أسس لشروطه: "إسرائيل" لم تعد مطمئنة لوجودها، وفلسطين لم تعد معزولة. هذه هي النتيجة المباشرة لعقود من عمله، وهي الإرث الذي سيستمر بعد استشهاده.
وفي ذكرى استشهاده، يتضح أن سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله لم يكن زعيمًا محليًا بل مهندسًا لمعادلات إقليمية قلبت ميزان القوى. من حرب تموز إلى حرب الإسناد لغزّة، من خطاب "بيت العنكبوت" إلى معادلات الردع، ومن الأيديولوجيا إلى الإستراتيجية، شكّل مسارًا جعل فلسطين في قلب كلّ مواجهة. استشهاده لم يُنه هذا المسار، بل ثبته كطريق وحيد نحو القدس.
 

الكلمات المفتاحية
مشاركة