مقالات

تتأرجح حكومة نواف سلام بين الاستحقاقات الكبيرة التي يواجهها لبنان وبين التبعية المطلقلة للولايات المتحدة الأميركية؛ ليصبح البلد رهينة قرارات السفارة الأميركية، بدل اتباع خطط علمية للنهوض ببلد أنهكته الأزمة المالية والاقتصادية أولًا والعدوان الإسرائيلي ثانيًا. بُعيد إعلان وقف إطلاق النار بين الكيان الإسرائيلي ولبنان، أهَلَّ دولة الرئيس نواف سلام كالمنقذ للسفينة التي أغرقتها الأزمات، وبعد مضي أكثر من نصف عمر الحكومة، لا بد من تقييم موضوعي للخطة الاقتصادية التي ألزمت الحكومة نفسها بها في البيان الوزاري؛ عقب حرب قاسية دُمرت فيها المنازل والمصالح التجارية وفُجّرت القرى. فما إنجازات الحكومة اللبنانية الحالية إلى اليوم في ملف إعادة الإعمار؟
البيان الوزاري
تضمّن البيان الوزاري اللبناني إشارة واضحة إلى أولوية ملف إعادة الإعمار؛ بوصفه استحقاقًا وطنيًّا عاجلًا بعد ما خلَّفه العدوان من دمار وخسائر جسيمة، حيث التزمت الحكومة بإنشاء صندوق خاص لإعادة الإعمار، يتسم بالشفافية والحوكمة الرشيدة؛ لضمان حسن إدارة الأموال والمشاريع. كما شدد البيان على أن إعادة البناء ستتم وفق رؤية متكاملة تشمل حشد الدعم المحلي والخارجي، وإقامة شراكات مع الدول المانحة والمؤسسات الدولية؛ لتأمين التمويل اللازم. واعتُبر أن نجاح هذه العملية يرتبط بقدرة الدولة على فرض سلطتها وبسط سيادتها على كامل أراضيها، إلى جانب المضي في الإصلاحات البنيوية التي تعيد الثقة الداخلية والخارجية بالدولة اللبنانية، بما يجعل من إعادة الإعمار مدخلًا لإعادة النهوض الاقتصادي والاجتماعي، وليس مجرد عملية ترميم مادي للبنية التحتية المتضررة.
واقعيًّا، اقتصر العمل الحكومي حتى اليوم على ملف إعادة الإعمار إقرار الحكومة اللبنانية توقيعَ قرض مع البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار، يهدف إلى إعادة تأهيل البنى التحتية والخدمات الأساسية في المناطق المتضررة، وذلك ضمن إطار مشروع LEAP. ويعدُّ هذا المبلغ خطوة تأسيسية لإنشاء صندوق لإعادة الإعمار، تأمل الحكومة أن يصل حجمه إلى نحو مليار دولار، مع إسهامات إضافية من الدول المانحة، إذ التزمت فرنسا مثلًا بتقديم 75 مليون يورو. وقد أوكلت مهام التنفيذ إلى مجلس الإنماء والإعمار بإشراف مشترك بين البنك الدولي والحكومة اللبنانية، فيما ستتولى وزارة الأشغال والنقل متابعة التنفيذ، ووزارة البيئة الإشراف على إدارة الأنقاض والجوانب البيئية. كما اتخذت الحكومة تدابير إدارية لتسريع التنفيذ وتعزيز الشفافية والمساءلة، أبرزها تعيين مجلس إدارة كامل لمجلس الإنماء والإعمار وتبسيط الإجراءات المرتبطة بالمشاريع.
خطة إعادة الإعمار
بعد انعقاد اتفاق وقف إطلاق النار مع "إسرائيل" في نهاية 2024، بات لبنان يواجه فاتورة إعادة إعمار ضخمة تقدر بين 11 و12 مليار دولار. تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن حجم الخسائر المباشرة في البنى التحتية بلغ 6.8 مليار دولار، مقابل 7.2 مليار دولار خسائر اقتصادية ناجمة عن انهيار الإنتاج وتوقف النشاط والانكماش الاقتصادي، ما يعكس واقعًا كارثيًّا على الاقتصاد اللبناني. وبحسب تصريحات رئيس الحكومة، يُرجّح أن الحاجة التفصيلية تبلغ 12 مليار دولار لإعادة الإعمار بشكل شامل.
أما بخصوص ما تم تنفيذه فعليًّا، فقد اكتفت الحكومة بالاتفاق مع البنك الدولي على تمويل بقيمة 250 مليون دولار فقط لإعادة الإعمار. لكن هذا المال يغطي حلقة صغيرة من احتياجات البلاد الكبيرة، إذ تمثل أقل من 3% من إجمالي ميزانية إعادة الإعمار فحسب. ولم تظهر حتى اليوم أي إجراءات عملية يتعين على الدولة أن تنفذها بهذا المبلغ القليل نسبة للمطلوب.
التقصير الفعلي والدبلوماسي
على الرغم من غياب إعلان رسمي مفصّل، فقد قام مجلس الإنماء والإعمار بجمع بيانات واقعية عن الدمار في العديد من المناطق المتضررة خصوصًا في ما يتعلق بالبنية التحتية الأساسية، مثل: الطرق والجسور وشبكات المياه والصرف الصحي والمرافق العامة. هذه البيانات الميدانية ساعدت على تقدير حجم الأضرار ووضع أولويات تنفيذ المشاريع ضمن مشروع LEAP رغم محدودية تمويله وأثره.
ومع ذلك، يظل التقصير الحكومي واضحًا في جانب توسيع جمع البيانات؛ ليشمل كل القطاعات المتضررة بالكامل، بما فيها المباني السكنية والتعليمية والصحية والتجارية، وكذلك عدم نشر هذه المعلومات بشكل شفاف وموحد، ما يحد من فعالية التخطيط طويل المدى لإعادة الإعمار وضمان توزيع الموارد بشكل عادل.
ولعلّ التقصير الأكثر وضوحًا هو التقصير الدبلوماسي. ففي ظل الضغط الكبير على لبنان؛ لإخضاع شعبه ومقاومته، وإقرار الحكومة ما أملته أميركا على لبنان، يغيب العمل الدبلوماسي عن رئيسَي الجمهورية والحكومة ووزير الخارجية؛ للمطالبة دوليًّا وعربيًّا بتمويل إعادة الإعمار. فمناطق الجنوب والبقاع وبيروت، كانت تحت نيران عدو لبنان، ولكن لبنان الرسمي متخاذل عن صد الهجمات اليومية على الأراضي اللبنانية، أو حتى عن العمل الجدي لإعادة الإعمار.
بعيدًا عن الضغط السياسي الاجتماعي على بيئة المقاومة للقبول بتسليم السلاح، ففي ظل ضعف التنسيق بين وزارة الخارجية والجهات التنفيذية الأخرى، يصعب المضي قدمًا في إقناع أي جهة خارجية بتمويل أي مشروع في لبنان، خاصة في ظل الفساد المستشري في إدارات ومؤسسات الدولة. فالفجوة بين الجهد الدبلوماسي وبين التخطيط والتنفيذ الواقعي للمشاريع يؤخر توفير التمويل، ويضع لبنان في موقف يعتمد بشكل كبير على الاستجابة الطوعية من الدول والجهات المانحة، بدلاً من وجود إستراتيجية واضحة ومستدامة.
في حزيران الماضي، أبدت إيران استعدادها للمشاركة في جهود إعادة الإعمار، إذ صرح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال زيارته لبيروت، بأن بلاده مستعدة لدعم لبنان في إعادة بناء بنيته التحتية وتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. ولكنَّ لبنان الرسمي لم يستغل فرصة الدعم الإيراني، أو حتى على الأقل استخدام هذه الفرصة كورقة تفاوض لتخفيف الضغط عن لبنان وشعبه.
تمتاز حكومة نواف سلام بالقرارات الورقية بعيدًا عن حلّ الأزمات منهجيًّا وعمليًّا وفعليًّا. ففي ظل مواجهة لبنان للعدو الإسرائيلي ومحاولته البائسة لإرضاخ الشعب اللبناني عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وفي ظل دخول لبنان نفق الأزمة المالية والاقتصادية منذ عام 2019، تقتصر أعمال الحكومة على قرارات لا تسهم فعليًّا في إيجاد حلول لأزمة تطاول مئات آلاف اللبنانيين. فملف إعادة الإعمار ملف مهمّش رغم أحقيته وأهميته، ووعود البيان الوزاري شعارات رنانة لم تنفذ، ولا إطار لتنفيذها. فالحكومة اللبنانية منهمكة في تنفيذ مصالح "إسرائيل" بنزع سلاح المقاومة دون التخطيط لإعادة الإعمار.