مقالات

عامٌ مرّ على استشهاد السيد حسن نصر الله، وما زال الوجدان العربي والإسلامي مأزومًا أمام سؤال واحد: كيف يمكن رثاء رجلٍ جمع بين البطل المجسّد الذي يواجه تحديات الواقع المادي، والبطل الروحي الذي يبدّد مخاوف الداخل؟ حين أُعلن خبر استشهاده، رفض كثيرون التصديق. لم يكن الإنكار مجرّد آلية دفاع نفسي، بل نتاج وعيٍ عميق بأنّ ظواهر مثل نصر الله لا تموت، وأن غيابها خرقٌ لناموس الكون.
حتّى اليوم، لا يزال كثيرون يبحثون عنه في خطاب لم يُلق بعد، أو صورة عابرة لرجل يشبهه، أو حتّى في مجسّم ثلاثي الأبعاد. ليس ذلك وهمًا فقط، بل محاولة متكرّرة لاستعادة أسطورة حيّة بعثت فينا شعورًا بالقدرة على التحدي.
البطل الذي حوّل "عصر الهزائم" إلى "عصر الانتصارات"
لفهم ظاهرة نصر الله، لا بد من العودة إلى المشهد العربي عشية توليه الأمانة العامة لحزب الله عام 1992. كانت المنطقة غارقة في آثار هزيمة 1967، وتداعيات الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان 1982، ومؤتمر مدريد، وصعود منطق التسويات. كان "عصر الهزائم" يفرض نفسه، ولم يكن أحد يتوقع أن الجنوب اللبناني الصغير سيهزّ أركان المشروع الصهيوني.
لكن نصر الله فعلها. عام 2000، تحقق أول انسحاب "إسرائيلي" من أرض عربية بالقوّة العسكرية، لا عبر مفاوضات. كان ذلك إعلانًا بأن المقاومة ليست مجرد شعار، بل خيار إستراتيجي قادر على قلب المعادلة. هنا تحديدًا بدأ التحول: من عصر الهزائم إلى عصر الانتصارات. هذا الانتصار لم يكن لبنانيًا فحسب، بل فلسطينيًا بامتياز. لقد رأى الفلسطينيون فيه البرهان الملموس على أن "إسرائيل" يمكن أن تُهزم، وأن السلاح يمكن أن يحرر.
إن مقاربة نصر الله من زاوية إيمانويل تود تعني النظر إليه لا كظاهرة فردية، بل كنتاج لسيرورات اجتماعية وتاريخية طويلة: الانهيار العربي بعد 1967، صعود الإسلام السياسي، تشكّل محور المقاومة، وانحسار هيمنة الغرب في الشرق الأوسط. في هذه اللحظة، يصبح نصر الله مرآةً لأزمة الغرب ذاته، ولإعادة تعريف الشرق الأوسط كساحة صراع كونية.
فلسطين كجوهر الشرعية
في خطاب نصر الله، لم تكن فلسطين قضية تضامن عاطفي أو شعارًا يزين الخطب السياسية. كانت جوهر الشرعية، معيار صدقية أي حركة مقاومة. قال مرارًا إن فلسطين هي "القضية المركزية للأمة"، لكن الأهم أنه ترجم هذا القول إلى فعل: دعم سياسي وعسكري ومعنوي للفصائل الفلسطينية، وإصرار على أن كلّ معركة يخوضها حزب الله مرتبطة عضويًا بمصير غزّة والضفّة.
من هنا نفهم لماذا وصفه الفلسطينيون بـ"شهيد غزّة". فالرجل لم يُنظّر للقضية عن بُعد، بل جعلها جزءًا من مشروعه الإستراتيجي. حين أعلن في خطاب شهير خلال حرب تموز 2006 أن "ما بعد حيفا وما بعد ما بعد حيفا" تحت مرمى الصواريخ، وخلال حرب غزّة الأخيرة قال "بيروت يقابلها تل أبيب"، كان يخاطب غزّة أيضًا: لستم وحدكم.
الاستشراق المعكوس: إعادة تعريف البطولة
إدوارد سعيد كشف كيف صاغ الغرب صورة "الشرق" كآخر متخلّف يحتاج إلى هيمنة. لكن تجربة نصر الله تقدم وجهًا آخر: "استشراقًا معكوسًا" حيث يعيد المقموع تعريف ذاته من خلال المقاومة. لم يكن نصر الله صورة نمطية لقائد عسكري، بل جسّد شخصية هجينة، تقاطع فيها الطابع المحلي اللبناني مع الطابع الأممي الفلسطيني والعربي والإسلامي.
لقد صار "البطل المركّب" الذي يجمع الأضداد: القوّة والرحمة، الغضب والهدوء، الطموح والزهد. هذه التركيبة أربكت لغة الرثاء؛ فكيف يمكن للكلمات أن تحيط برجلٍ كان في آن واحد رمزًا للصلابة العسكرية ورمزًا للرهافة الروحية؟
لبنان وغزّة: وحدة الدم والمصير
إذا كان تحرير الجنوب عام 2000 نموذجًا ألهم الفلسطينيين، فإن حرب تموز 2006 كرّست معادلة الردع التي أمنت مظلة نفسية لغزّة. ومع اندلاع "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، تجلت وحدة الساحات التي بشّر بها نصر الله: فتح حزب الله جبهة الإسناد في الجنوب، مؤكدًا أن مصير لبنان وفلسطين واحد.
هذه ليست رومانسية خطابية، بل حقيقة إستراتيجية. لقد استُشهد نصر الله وهو يقود هذه الوحدة عمليًا. لذلك لم يكن غريبًا أن يشيّعه الفلسطينيون كأحد قادتهم، وأن يرفعوا صورته في غزّة والضفّة كما لو كان قائدًا محليًا.
الرثاء المستحيل: أزمة الكلمة أمام الأسطورة
الرثاء فعل لغوي، لكنّه يتعثر أمام ظواهر استثنائية. لم يعرف الكتّاب كيف يكتبون عن نصر الله. لماذا؟ لأنه جعل الكلمات تأتيه لا العكس. كانت الفكرة في خطابه تنساب بسلاسة، كأنها تعبر كلّ الطرق في وقت واحد. لم يحتج إلى شعارات جوفاء، ولا إلى لغة معقّدة. جمع بين وضوح التعبير وعمق الفكرة، فصار مرجعًا حتّى لخصومه الذين لم يجدوا في خطابه ثغرة من حيث الاتساق والمنطق.
هنا تبرز المفارقة: حين يرحل مثل هذا القائد، يواجه الكتّاب عجزًا مضاعفًا. هل يرثونه كقائد عسكري أم كزعيم روحي؟ أم كرجل مثّل استثناءً تاريخيًا في الصدق والوضوح؟ لذلك كان الرثاء دائمًا ناقصًا، محكومًا بالفشل أمام حجم الظاهرة.
فانون وتثقيف المسحوقين
فرانز فانون تحدث عن مهمّة القائد الثوري في "تثقيف المسحوقين"، أي تمكينهم من إدراك ذواتهم وقدرتهم على الفعل. نصر الله جسّد هذه المهمّة. لم يتعامل مع جمهوره ككتلة عاطفية بحاجة إلى الشعارات، بل كمجتمع قادر على استيعاب أعقد المعادلات الإستراتيجية إذا صيغت بصدق وبساطة.
بخطابه، ارتقى بالمستوى الشعبي إلى مستوى الوعي السياسي، من دون أن يفقد حرارة اللغة القريبة من الناس. وهنا يكمن سرّ فرادته: جمع بين التنظير العميق واللغة المفهومة.
وصية الدم: فلسطين أولًا وأخيرًا
منذ تأسيس حزب الله، ومنذ استشهاد عباس الموسوي عام 1992، كان الالتزام بفلسطين جزءًا من العقيدة. لكن مع نصر الله، تحولت هذه العقيدة إلى ممارسة متصاعدة: دعم الفصائل الفلسطينية، تعزيز مفهوم وحدة الساحات، الانخراط المباشر في معركة "طوفان الأقصى".
استشهاده في سبتمبر 2024 لم يُقرأ كاغتيال لقائد لبناني فحسب، بل كاغتيال لـ"حارس فلسطين". العبارة التي ردّدها أنصاره من لبنان وفلسطين أيضًا - "سيد الشهداء وحارس فلسطين" - لم تكن مجرد مجاز بل توصيفًا دقيقًا لدوره: سيد الشهداء لأنه وهب حياته كلها للمقاومة، وحارس فلسطين لأنه جعل من لبنان خط دفاعها الأول.
الطاقة التي لا تفنى
رحيل نصر الله لم يكن نهاية، بل بداية شكل آخر من الحضور. كما في قوانين الفيزياء، حيث تتحول الطاقة من شكل إلى آخر دون أن تزول، تحولت شخصيته إلى طاقة كامنة تدفع أجيالًا جديدة من المقاومين. لقد ترك وصية واضحة: أن فلسطين هي البوصلة، وأن المقاومة وحدها طريق الحرية.
أي كلمات تفي بدمك يا نصر الله؟ ربما لا توجد. لكن ما يمكن قوله بثقة هو إن دمك صار جزءًا من ذاكرة الأمة، وإن حضورك سيظل يتجدد كلما رفعت غزّة رايتها، أو وقف مقاتل في جنوب لبنان على تخوم فلسطين. لقد رحلت بالجسد، لكنك بقيت كحقيقة كبرى: سيد الشهداء، وحارس فلسطين.
في النهاية، ما معنى عبارة "سيد الشهداء وحارس فلسطين"؟ إنها ليست مجرد شعار عاطفي. "سيد الشهداء" لأنه جسّد موقعًا استثنائيًا في تاريخ المقاومة، ولأنه ختم مسيرته بالشهادة التي رفعت رمزيته إلى مرتبة أسطورية. و"حارس فلسطين" لأنه جعل من لبنان درعها الإستراتيجي، وحوّلها من قضية منسية إلى بوصلة سياسية وأخلاقية للعالم العربي والإسلامي.
استحق بذلك وصف الفلسطينيين له بـ"شهيد غزّة". لقد عاش مدافعًا عنها، واستشهد وهو يقود جبهة إسنادها.