نقاط على الحروف
أطلق بالأمس المبعوث الأميركي توم بارّاك سلسلة من التهديدات العشوائية ضدّ لبنان، ملوّحًا بنشوب حرب أهلية وباندلاع حرب "إسرائيلية" موسّعة. وهي تضاف إلى تلميحاته السابقة بتهديد "سوري" للبنان، ولم يبق له إلّا التلويح باحتمال "تسونامي" من جهة البحر وباستدعاء كائنات فضائية ضدّ البلد، حتى يكتمل حصار التهديدات من كلّ الجهات.
هذه التهديدات جاءت على وقع صوت طائرات الاستطلاع التي تمارس احتلالًا "عن بعد" لكلّ المناطق اللبنانية، ولم ينجُ من دائرة استطلاعها حتى قصر بعبدا، القصر الذي انتهكته سابقًا المبعوثة الأميركية عبر اطلاقها تصريحات تحريضية ومعادية من على منبره. كيف تفاعل الإعلام السياديّ مع هذه الاستباحة المتعدّدة الوجوه لأبسط قواعد السيادة؟
صحيفة "النهار" أفردت لتهديدات برّاك ثلاثة عناوين مختلفة: "عاصفة برّاك "نزع السلاح أو الحرب" و"توم برّاك للبنان: الإنذار الأخير!" و"ولكن… هل تقبل إسرائيل مفاوضات غير مباشرة مع لبنان؟". من العناوين كما بين السطور، ثمّة انبطاح تامّ، كالعادة، يتعاطى مع التصريح الأميركي مهما كانت فحواه ومهما بلغت درجة الانتهاك فيه ككلام منزل ومحقّ لا يحتمل نقاشًا أو اعتراضًا، وبدون أيّ إشارة ولو شكلية إلى استهجان التهديدات.
من جهتها، بثّت MTV تقريرًا تحت عنوان "برّاك والتحذير الأخير: حرب وفوضى" وتضمّن ملخّصًا عمّا غرّد به برّاك، وأيضًا دون أي إشارة امتعاض بحيث يظهر للمشاهد أن برّاك هذا هو حاكم منتخب ومُطاع في البلد، وليس مبعوثًا يتدخّل في شؤون ينبغي وبحسب البروتوكولات الدبلوماسية ألّا يبدي بها رأيًا. علمًا أن ألفباء السيادة تفرض أن تُراعى ولو شكليًا البروتوكولات في التعاطي مع البلد وفي شؤونه.
بدورها، خرجت "نداء الوطن" بـ"مانشيت" سياديّ لافت: "برّاك يقرأ مزاميره... فهل من يسمع؟"، والوصف بالسياديّ هنا يعود إلى إيمان الصحيفة بالسيادة الأميركية على لبنان، وأكثر من ذلك، إيمانها بنبوّة تعتقدها في برّاك، جعلتها ترى في تهديداته "مزامير" مقدّسة، وتسبيحات إلهية لا يمكن مسّها بنقد أو باعتراض، لا سمح الله!
أما انتهاك سماء لبنان يوميًا والذي بلغ بالأمس حد انتشار طائرات الاستطلاع على علوّ منخفض وبشكل مكثّف في بيروت والضاحية وجبل لبنان بالإضافة إلى الجنوب، فلم يبلغ من الكثافة ما يكفي لأن يفرد له محفل الإعلام البرّاكي بضعةكلمات استهجانية ولو "على عيون القراء والمشاهدين"! وللأمانة، انفردت "نداء الوطن" من بين فريقها بذكر اقتراب المسيّرة المعادية من القصر الجمهوري في بعبدا. للوهلة الأولى، يظنّ القارئ أن في الخبر استنكارًا أو استهجانًا، ليتبيّن في فحواه أنّ الصحيفة ترجمت التعدّي على أنّه رسالة سياسية إلى موقع رئاسة الجمهورية، وبأسلوب مقتضب تولّت "نقلًا عن مصادر" إيصال الرسالة إلى الرئيس.
ماذا لو شاءت مختلف مدارس علم السياسة أن تتخذ في لبنان مختبرًا لتعريف وشرح مفهوم "السيادة"، واستخدمت عيّنات اختبار من هذا الفريق الذي يتفوّق في كلّ مرة على نفسه في طقوس الانبطاح وترانيم الخضوع! بدون أدنى شك، سوف تخرج بتعريف يقول إن السيادة في التجربة "اللبنانية" ترادف الذلّ الوطني، والخضوع الممنهج، والأنس بالتعدّي وبالانتهاك، وتشكّل بدون أي التباس الترجمة الأدقّ لعبارة "هزُلت!"