نقاط على الحروف

يجرّم القانون اللبناني التطبيع بكلّ أشكاله، وتُعتبر مواد قانون مقاطعة إسرائيل، غير المفعّلة على ما يبدو، نصوصًا صريحة لا تحتمل التأويل في مجال تجريم أيّ نشاط تطبيعي مهما كان نوعه.. وإن كان التطبيع الاقتصادي قابلًا للتورية أحيانًا أو التمويه، أو يحتمل أن يكون ناجمًا عن خطأ غير متعمّد في استيراد بضاعة "إسرائيلية المنشأ"، فالتطبيع الإعلاميّ هو جرم مشهود، بكلّ عناصره الجرمية، ولا يحتمل أن ينجم عن خطأ عرَضي أو جهل. وهو يحمل دلائل على أنّ المتورّط في الجريمة لا يتجاهل القانون فحسب، بل يذهب إلى آخر درجات التطبيع مستقويًا بظنّه أنّ هذه المسألة باتت أمرًا واقعًا.
قبل سنوات، كان مجرّد التقاط صورة جماعية مع "إسرائيلي" في مناسبة ذات مشاركات عالمية، يثير حمية الإعلاميين والقانونيين وكذلك أهل السياسة. ولا ننسى عدد المرّات التي سمعنا فيها عن لاعبين رياضيين لبنانيين يرفضون لعب أيّ مباراة ضد خصم "إسرائيلي" بناء على موقف مبدئيّ وطني، وأيضًا تحاشيًا للمساءلة القضائية، فالقانون واضح في هذا المجال، ولا استثناءات فيه. وعليه، كان الاشتراك مع "إسرائيلي" ولو في كادر صورة عامة، كما في المهرجانات الثقافية والفنية والجمالية حول العالم، كافيًا لإثارة فضيحة مدوّية، يخرج المتورّط فيها مستميتًا في محاولة تبرير الأمر عبر الإعلان عن عدم علمه مسبقًا بجنسية الموجودين في الصورة المشتركة. كان مجرّد الاتهام بسقطة تطبيعية يكفي لتشكيل وصمة عار على المستويين الإعلامي والقانوني.
المتغيّر الخطير اليوم يتجاوز مسألة صورة أو خبر عابر.. ويتخطّى فكرة ألّا يشعر المرتكب بالوصمة، فقد صار محظورُ التطبيع العلنيّ مباحًا على المستوى الإعلامي، وإن كان مرتكبو هذه الجرائم في البداية يتحدّثون بصوت متلعثم وخافت، فاليوم صوتهم بات عاليًا، ومجاهرتهم بالجرم لم تعد تثير الخجل الوطني ولا الخشية من المساءلة القانونية.. وإن كان الأوّل يولد من مبادىء الشخص وخياراته الوطنية، فالثاني نتاجٌ طبيعي لتعطيل القانون واعتباره حبرًا على ورق.
دوّت فعلة النائب مروان حمادة في هذا الصدد بشكل لافت بعد انتشار مقابلة تلفزيونية مسجَّلة عبر قناة i24 "الإسرائيلية" الناطقة بالفرنسية، لا فقط في أطر مجتمع المقاومة، بل حتى في الدوائر القانونية التي تستغرب هذا التجاهل الصارخ للمواد القانونية التي تجرّم التطبيع، وللدستور اللبناني الذي يعتبر "إسرائيل" عدوًّا.. هذا النموذج من "التطبيع الإعلامي" ليس سابقة، فمنذ سنوات قليلة، تصرّف الإعلامي نديم قطيش كرائد في هذا المجال، لا في خطابه الإعلاميّ المتصهين فحسب، بل أيضًا في الإطار الوظيفيّ، إذ استكتبته جريدة إلكترونية "إسرائيلية" هي The Times of Israel. استفاد قطيش من استقراره خارج لبنان للتهرّب من المساءلة القانونية التي قد يتعرّض لها. أما زميلته ليال الإختيار، وبعد استضافتها للناطق باسم جيش الاحتلال ومناداته بأستاذ، ظنّ الجمهور أن مذكرة التوقيف التي صدرت بحقّها ستكون رادعًا أو حتّى مدعاة اعتذار أو تراجع، أقلّه حين تريد العودة إلى لبنان. لكن حدث أن جاءت لبنان، ودخلت بشكل عاديّ، كأن مذكّرةً لم تكن!
تطول لائحة المطبّعين إعلاميًّا ويشتركون جميعًا في نقطتين اثنتين: غرقهم في وهم "الواقع الجديد" الذي يظنّون أنّه يمنحهم فرصة صناعة المقدمات نحو تطبيع كامل ومقونن.. والنقطة الثانية جهوزيّتهم للدفاع عن أنفسهم عبر الهجوم على منتقديهم واتّهامهم بالمزايدة عليهم في الوطنية.
في الواقع، التطبيع الإعلامي في لبنان لا يقتصر على المقابلات والتعاون المباشر مع العدو، فتبنّي السرديات الصهيونية بحذافيرها هو أيضًا شكل من أشكال التطبيع، وكذلك التحريض ضد الأرض والناس من أهل المقاومة، والبحث عن مبرّرات وذرائع للعدوان المتواصل على لبنان. جميع هذه الارتكابات تنضوي تحت عنوان التطبيع الإعلاميّ الممنهج، بالحدّ الأدنى، كي لا نقول عنوان العمالة المشهودة. ولمّا كان الرادع الأخلاقي قد سقط تمامًا بالنسبة لهؤلاء، فتفعيل الرادع القانوني وبجديَّة وحزم بات ضرورة ملحّة.. وهنا، لا تقع المسؤولية على القضاء فحسب، بل أيضًا على وزارة الإعلام ومجلس الوزراء واللجان النيابية المختصة بالشأن الإعلامي، وكذلك على نقابات العاملين في الصحافة والإعلام.
جميع هؤلاء معنيون الآن أكثر من أيّ وقت مضى بمنع هذه الارتكابات التي يريد أصحابها لها أن تصبح معتادة، ويريدون منها التمهيد لتطبيع شامل، وذلك انطلاقًا من المواد القانونية الصريحة في هذا المجال، ومن المسؤولية الوطنية والأخلاقية تجاه البلد وأهله.. دون ذلك، سيواصل هؤلاء انتهاكاتهم للناس وللقوانين ولكلّ ما بُذل في هذه الأرض، تمامًا كما يواصل العدوّ اعتداءاته..