تكنولوجيا
ما بعد تطبيق AppCloud : العدو "الإسرائيلي" والسيادة الرقمية المفقودة في العالم العربي
القضية ليست في تطبيق واحد مخفي داخل هواتفنا بل في منظومة كاملة من النفوذ الرقمي "الإسرائيلي" تمتد عبر الشركات والتقنيات حول العالم
حين قال نتنياهو إن كل من يحمل هاتفًا محمولًا "يحمل قطعة من "إسرائيل""، ظنّ البعض أن الرجل يبالغ. لكن المتابع لتاريخ الكيان الصهيوني في عالم التكنولوجيا يدرك أن الجملة لم تكن مزحة، بل توصيفًا دقيقًا لواقعٍ متحقق: "إسرائيل" لم تعد بحاجة إلى جيوشٍ لغزو العالم العربي، بل إلى تطبيقات، وخوادم، ومنصات رقمية تغوص في حياة الناس دون أن يشعروا.
القضية التي أثارتها التقارير الأخيرة حول تطبيق AppCloud المثبّت مسبقًا في بعض هواتف "سامسونغ" ليست حادثة معزولة. إنها حلقة في سلسلة طويلة من التغلغل "الإسرائيلي" في الفضاء السيبراني العالمي، وخصوصًا في منطقتنا. فبينما يظن المستخدم العربي أنه يشتري هاتفًا ذكيًا من شركة كورية أو أميركية، تنزلق إلى جهازه شيفرات "إسرائيلية" قادرة على تتبع حركته ومراسلاته وصوره وحتى موقعه الجغرافي.
منذ تأسيسه، أدرك الكيان الصهيوني أن القوة في القرن الحادي والعشرين لا تُقاس بعدد الدبابات، بل بكمية البيانات. من برنامج Pegasus الذي اخترق هواتف رؤساء وصحفيين في أنحاء العالم، إلى شركات مثل Candiru وCellebrite وAnyVision التي تبيع تقنيات المراقبة وجمع المعلومات تحت ستار "الأمن السيبراني"، صنعت "إسرائيل" لنفسها اقتصادًا موازيًا يقوم على التجسس.
الفضيحة لم تقف عند هذا الحد. كثير من الشركات "الإسرائيلية" يجري الاستحواذ عليها لاحقًا من قبل شركات أميركية كبرى، لكن دون أن يتغير مركز التطوير أو الطاقم الهندسي في "تل أبيب". فعلى سبيل المثال، استحوذت شركة Unity Technologies الأميركية عام 2022 على شركة IronSource "الإسرائيلية" المتخصصة في برمجيات الإعلانات، ومع ذلك واصل مئات المهندسين عملهم من مكاتب الشركة في "تل أبيب"، وبقيت المنصات التي طورتها ـ مثل Aura وAppCloud - تعمل ضمن البنية التقنية العالمية التي تستخدمها "سامسونغ" وغيرها .

الحالة نفسها تتكرر مع شركات أخرى مثل Cellebrite، التي تصدّر تقنيات استخراج البيانات من الهواتف إلى أجهزة الأمن الأميركية والأوروبية، رغم أنها تعمل تحت إشراف وزارة الحرب في كيان العدو .
كما استحوذت شركات أميركية مثل Google وMicrosoft على شركات ناشئة "إسرائيلية" في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني ـ من بينها Waze وAdallom وCloudyn - مع إبقاء مقار البحث في قائمة في الكيان.
هذه الصفقات توحي بتحوّل الملكية من الشرق الأوسط إلى وادي السيليكون، لكنها في الواقع تمثل نمطًا منظمًا من "الاستعمار التقني": الملكية القانونية تنتقل، لكن السيطرة المعرفية تبقى. النتيجة أن البرمجيات "الإسرائيلية" تندمج في أنظمة ومنتجات عالمية يستخدمها مليارات البشر، لتصبح "إسرائيل" شريكًا غير مرئي في البنية التكنولوجية التي تحكم العالم الرقمي اليوم.
الأخطر من كل ذلك أن بعض الحكومات العربية نفسها لجأت، عن قصد أو عن جهل، إلى شراء تقنيات مراقبة وتجسس "إسرائيلية" لاستخدامها في تتبع المواطنين والمعارضين. فقد كشفت تقارير دولية أن برنامج "بيغاسوس" التابع لشركة NSO Group استُخدم في دول مثل المغرب والإمارات والسعودية لمراقبة هواتف صحفيين وناشطين سياسيين، كما تحدثت تحقيقات أخرى عن صفقات تعاون بين شركات "إسرائيلية" وجهات أمنية في المنطقة لتزويدها ببرمجيات تحليل بيانات واتصالات متقدمة. هذه الوقائع لا تضع الخصوصية الفردية في خطر فحسب، بل تعني أن بعض الدول العربية باتت تستخدم أدوات خصومها التاريخيين لإدارة أمنها الداخلي.
ولعلّ ما حدث في مجزرة "البيجر" في لبنان يختصر حجم الخطر. هناك، تحولت أجهزة الاستدعاء القديمة (البيجر) إلى أدوات تفجير عن بعد، في واحدة من أكثر العمليات دقة من حيث استخدام التكنولوجيا في القتل. تلك الحادثة لم تكن مجرد عمل عسكري، بل درس قاسٍ حول كيف يمكن للأجهزة المدنية أن تتحول إلى أسلحة بفضل المعرفة التقنية.
"إسرائيل" لا تروّج لنفسها اليوم ككيان احتلال، بل كـ"وادي السيليكون الجديد" لـ"الشرق الأوسط". شركاتها الناشئة تبيع برمجياتها تحت عناوين براقة مثل "الإعلان الذكي" أو "تحليل البيانات"، بينما تعمل في الواقع على بناء بنية تحتية للتجسس العابر للحدود. تطبيق AppCloud نموذج واحد فقط من عشرات الأدوات التي تتسلل بهدوء إلى الأجهزة التي نحملها، والمواقع التي نزورها، والخدمات التي نستخدمها.
ورغم أن بعض الشركات الكبرى تبرر التعاون مع شركات "إسرائيلية" باعتبارات تجارية بحتة، إلا أن استمرار وجود فرق العمل "الإسرائيلية" بعد صفقات الاستحواذ يثير تساؤلات جدية حول من يمتلك فعلًا السيطرة على هذه التقنيات. فحين تبقى العقول التي طورت الكود تعمل من "تل أبيب"، لا يمكن اعتبار السيطرة التقنية قد انتقلت حقًا إلى أي مكان آخر.
المؤسف أن العالم العربي ما زال يتعامل مع الأمن الرقمي كمسألة ثانوية، بينما أصبحت الدول المتقدمة تعتبره امتدادًا لسيادتها الوطنية. لا توجد حتى اليوم بنية قانونية أو تقنية عربية تفرض رقابة على البرمجيات المضمَّنة في الأجهزة المستوردة، ولا معايير تلزم الشركات بالإفصاح عن الشركاء الحقيقيين في تطوير أنظمتها.
هكذا تتحول هواتف ملايين المستخدمين العرب إلى نقاط مراقبة مجانية، وتُضخ بياناتهم إلى خوادم لا أحد يعرف على وجه الدقة أين تقع أو من يديرها. إننا لا نتحدث عن اختراق عرضي، بل عن استعمار رقمي ناعم يتسلل إلينا تحت شعار "التقدم التكنولوجي".
تبدو المفارقة قاسية: دولنا تستورد الأجهزة والتطبيقات التي تُستخدم لاحقًا في مراقبتها. التكنولوجيا التي تُسوّق لنا كرمز للتطور هي نفسها التي تُستخدم أداة للهيمنة. وفي غياب استراتيجيات عربية موحدة للأمن السيبراني، ستبقى منطقتنا مكشوفة أمام قوى تمتلك مفاتيح التكنولوجيا وتتحكم في مساراتها.
اليوم، لا يكفي أن نطالب بحذف تطبيق هنا أو تعطيل برنامج هناك. ما نحتاجه هو رؤية سيادية رقمية تعيد تعريف علاقتنا بالتكنولوجيا، وتجعل حماية بيانات المواطن جزءًا من مفهوم الأمن الوطني. فالهاتف الذكي لم يعد وسيلة اتصال، بل حدودًا رقمية تمثل الوطن نفسه.
حين قال نتنياهو إننا نحمل قطعة من "إسرائيل" في جيوبنا، كان يتحدث بصدق غير مقصود. القطعة ليست شريحة إلكترونية، بل منظومة كاملة من السيطرة التقنية التي تتجاوز الحدود والجغرافيا. وإذا لم ننتبه اليوم، سنجد أن مستقبلنا مثل بياناتنا قد أصبح محفوظًا في خوادم بعيدة، لا نملك فيها لا كلمة سرّ ولا سيادة.