مقالات مختارة
صحيفة الأخبار
صباح الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1982، دوّى انفجار هائل في مدينة صور، معلنًا ولادة مرحلة جديدة في تاريخ لبنان والمنطقة. كان ذلك اليوم إيذانًا ببداية عهد المقاومة الإسلامية ضدّ الاحتلال ال"إسرائيلي"، وبداية تحوّل نوعي في أدوات المواجهة ومعانيها. العملية التي نفّذها الشاب الاستشهادي أحمد قصير، ابن بلدة دير قانون النهر، لم تكن مجرّد حدث أمني أو عسكري، بل شكلت زلزالًا إستراتيجيًا هزّ كيان الاحتلال وأعاد رسم معادلات القوّة في الجنوب. استهدفت العملية مقرّ الحاكم العسكري "الإسرائيلي" الذي كان يضمّ ضباطًا من الجيش والمخابرات "الإسرائيلية"، وأسفرت عن مقتل عشرات الجنود والضباط وتدمير المبنى بالكامل.
لكن، قبل ذلك الصباح، كان الشهيد أبو الفضل كركي، وعلى مدى أسابيع، منهمكًا في التحضير لهذا الحدث المفصلي مع الشهيد عماد مغنية وآخرين توزعوا بين بيروت والجنوب.
يروي كركي، في مذكراته، تفاصيل عملية التفجير ومراحل تحضيرها، فيقول إنه "في عام 1982، عندما أخبرني (الشهيد) الحاج عماد (مغنية) عن فكرة (الاستشهادي) أحمد (قصير)، وطلب مني أن أذهب إلى بلدة دير قانون النهر للقائه، كان الشهيد عبد المنعم قصير والشهيد رضا حريري الواسطة في هذا الموضوع".
اللقاء الأول
في ما كان العدوّ "الإسرائيلي" لا يزال في منطقة خلدة، توجه أبو الفضل كركي إلى بلدة دير قانون النهر للتعرف إلى قصير، واستطلاع المكان ومتابعة تجهيز السيارة حتّى اللحظة الأخيرة قبل التنفيذ. وعن لقائه بالشهيد قصير، يقول "كان أحمد شابًّا في التاسعة عشرة من عمره، تعطيه بنيته الجسدية عمرًا أكبر من ذلك... سألته على ماذا اتفق مع عبد المنعم، فأخبرني عن فكرته بتفجير بناية "عزمي" التي اتّخذها الصهاينة مركزًا لقيادة الحاكم العسكري في صور"، والتي "كنا بالفعل قد وضعناها ضمن بنك أهدافنا. وفي بيروت أيضًا كان الشهيد عبد المنعم والشهيد رضا وغيرهما قد تحدّثوا عنها مع الحاج عماد".
بعد عدة أيام، طلب أبو الفضل من قصير إبلاغ أهله بأنه سيذهب إلى بيروت لينجز عملًا، "وغادرنا معه إلى بلدة طيردبا حيث منزل أهل الشهيد عماد، على اعتبار أنه غير مسكون، ولكن كنا نحن والحاج عماد عندما نأتي إلى البيت، نغلق الستائر بـ"الحرامات" وكنا نضيء شمعة لنستطيع الرؤية في البيت". هناك "بقي أحمد في المنزل حوالى 20 يومًا، وجهّزنا سيارة "البيجو" وأمّنّا المتفجرات كمية تلو الأخرى. كان أقصى ما يمكن أن تحمله السيارة من 200 إلى 300 كيلوغرام، وضعنا عبوات من الغاز ومواد مشتعلة وغالونات من البنزين نحن والحاج عماد، وأضفنا كمية كبيرة من الفلّين المذاب إلى غالونات البنزين لنزيد من قوة الاشتعال، فلا تنطفئ النار بسهولة".
كان مع الشهيد أحمد في المقعد الخلفي من السيارة، عدة غالونات من البنزين وقد ناءت السيارة بحملها، حتّى صارت تلامس الأرض. ورغم أن كمية المتفجرات لم تكن كبيرة بسبب محدودية المواد الممكن للسيارة أن تتحملها، إلا أن ما ساعد في قوة الانفجار أن السيارة كانت محصورة داخل البناء، لذلك سقط المبنى رويدًا رويدًا، بحسب الشهيد أبو الفضل، الذي قال "فقط الله سبحانه وتعالى يعلم أين وقف وفجّر الشهيد أحمد السيارة حتّى نزل البناء بهذا الشكل".
عطل مفاجئ يوم التنفيذ
ويسرد الشهيد أبو الفضل تفاصيل يوم العملية، فيقول إنه في يوم 11/11/1982، توجّه صباحًا برفقة الشهيد مغنية الذي كان قد حضر في سيارة "البيجو" المعدّة للعملية، و"كان الشهيد قصير معي في سيارة "الفولفو" على بعد مئة متر". ويضيف أن مغنية "قال لي إن الفرامل في السيارة لا تعمل، ولكن كان رأيه أن لا نؤجل العملية، واتفقنا أن يوازن السيارة من خلال مسكة الفيتيس"، في الطريق بين بلدتَي معروب ودير قانون يوجد منحدر قوي. في معروب يوجد موقع "إسرائيلي" خالٍ لا بد لنا من أن نمرّ أمامه.
هذا الموقع كان في آخر معروب، وإلى يمين الموقع توجد تعاونية اسمها "النخيل"، وإلى يساره ملعب كرة قدم، كان جنود العدوّ "الإسرائيلي" قبل ذلك دائمي التواجد فيه، وكان المقاومون يستهدفونه بسلاح (B7) بشكل متواصل، إذ كانوا يحضرون من كلّ القرى المحيطة لاستهدافه وكأنهم يتدرّبون بضربهم لهذا الموقع، حتّى اضطرّ العدوّ إلى إخلائه".
في يوم العملية، "مررنا أمام هذا الموقع، ونزلنا من دير قانون، وصار الحاج عماد كلما ضغطت السيارة لتنزل أسرع يقرّب سيارته حتّى تلامس سيارتي ليخفف من سرعتها، لثقل الوزن الموجود فيها، وكان خوفنا من أن ينكسر الـ"الفيتاس". لم نخشَ أن تنفجر السيارة لأنها لم تكن معدّة للانفجار حتّى لو دُقت بالمهدّة".
الوداع الأخير... والانفجار الكبير
ويضيف: "وصلنا أخيرًا إلى الطريق العام فاستلم الشهيد أحمد السيارة وودّعناه هناك. كان الوداع لطيفًا جدًا، كانت روحية أحمد عالية، يقين وثبات، ابتسامة وهدوء. في تلك اللحظة حدّثتني نفسي أن ما أشعر به من رهبة هو من هيبة الموت، هيبة الانتقال. كان يرافق ذلك بابتسامة، ولكن ليس ابتسامة أحد يلاطف أحدًا آخر. لا، كانت بسمة مختزنة في الأعماق وفيها غبطة. كان أحمد كذلك فعلًا. هدوء، هدوء، هدوء، ويقين... ثمّ رفع صوته وقال: هيا، انصرفوا".
بعد دويّ الانفجار الكبير "لم نكن قد صلّينا أنا والشهيد عماد صلاة الصبح بعد، ولكن الشهيد أحمد صلّاها قبل الشروق، وقبل الانطلاق، لقد كان لديه متّسع من الوقت في المكان الذي كان ينتظرني فيه". وأضاف "ودّعناه بعيدًا على طريق البساتين، ثمّ وصلنا إلى الطريق العام وافترقنا هناك. انطلق هو إلى أداء المهمّة وعُدنا نحن من الطريق نفسه، وقفنا أبعد ما يمكن حيث مفترق الطريق المؤدّي إلى بلدة العباسية حاليًا.
كانت المنطقة كلها بساتين وليس فيها أبنية كما اليوم، كنا على بعد حوالى كيلومتر واحد أو أكثر، اقترحت على الحاج عماد أن نقف لنصلي قبل أن تشرق الشمس، لكنّه قال لي من غير المعقول إن نخاطر وننزل، وقد نقع في قبضة "الإسرائيلي" الذي سيسأل لماذا نصلّي في الطريق، خاصة أن وقت الانفجار حصل بعد دقيقتين أو ثلاث كحد أقصى، فاقترح أن نصلّي في السيارة. وبالفعل توليت أنا القيادة وصلّى الحاج وقد أدار وجهه إلى القبلة وصلى إيماءً، ثمّ قاد هو السيارة بينما صلّيت مثله. بعدما تجاوزنا الحاجز "الإسرائيلي" في معروب، وقفنا ونظرنا إلى الخلف حيث وصلنا إلى صريفا وكان خيط الانفجار لا يزال باديًا".
بعد العملية، بقيت مروحيات العدوّ تنقل القتلى والجرحى على مدى يومين، فالانفجار كان ضخمًا جدًا. وما زاد في أعداد القتلى والمصابين الصهاينة، أنّ الطقس لم يكن باردًا قبل تلك الليلة، ولكن خلال الليل اشتد البرد كثيرًا، ونزل الشتاء بغزارة، فلجأ الجنود الصهاينة الذين كانوا منتشرين في الخيم شرقي طريق الزفت، شرقي بناية "عزمي" المستهدفة، وعندما اشتد المطر تجمّعوا كلهم في مكان واحد... في أحد ملاجئ بناية المركز. ولهذا الملجأ قصته.
يقول الشهيد أبو الفضل إن هذا الملجأ كان عبارة عن سجن أودع الصهاينة داخله عشرات المعتقلين من اللبنانيين والفلسطينيين، ولكن عندما اشتد البرد في تلك الليلة، أخلى الجنود الملجأ من المعتقلين، ووضعوهم في الطابق السابع الشديد البرودة، واحتلوا مكانهم، معتقدين أن الملجأ سيكون أكثر دفئًا! لكن عندما حصل الانفجار، يقول الشهيد أبو الفضل إن "الطابق السابع نزل رويدًا رويدًا إلى الأرض: تك تك تك، هكذا كان صوت البناء وهو ينزل". واستشهد اثنان من الأسرى، وكسر ثلاثة منهم أيديهم وأرجلهم.
من خلدة إلى خلّة وردة: سيرة مقاوم أرهـق العدو
منذ انطلاق العمل المقاوم في جنوب لبنان، شارك الحاج أبو الفضل كركي في مسار طويل من المواجهات ضدّ قوات الاحتلال، لعب خلاله أدوارًا أساسية في التخطيط والتنفيذ والتنظيم، إلى أن ارتقى شهيدًا على طريق القدس، إلى جانب الأمين العام الشهيد السيّد حسن نصر الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في 27 أيلول 2024.

بدأ مسيرته أواخر سبعينيات القرن الماضي ضمن النشاط الإسلامي، بداية مع حركة أمل، ثمّ مع "حزب الدعوة" و"اتحاد الطلبة"، إلى جانب عدد من المجاهدين الأوائل. عام 1978، تعرّف إلى الشهيد الحاج عماد مغنية (الحاج رضوان)، ليبدأ معه العمل العسكري إلى جانب الشهيدين محسن شكر ومصطفى بدر الدين (ذو الفقار).
مع الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982، شارك أبو الفضل في أولى العمليات في خلدة، حيث أُصيب برفقة الشيخ جمال كنعان والشهيد ذو الفقار بدر الدين، ونُقل إلى الخارج لتلقي العلاج.
قيادة الجنوب وعمليات استشهادية
أواخر عام 1982، بعد عودته من العلاج، تولّى قيادة العمل العسكري في الجنوب، وشارك في التخطيط لعمليات استشهادية عدة، أبرزها عملية الشهيد أحمد قصير التي استهدفت مبنى "عزمي" في صور، حيث رافق التحضيرات عن قرب حتّى لحظة التنفيذ. كما واكب عملية "مدرسة الشجرة" وشارك في تأمين الدعم والتخطيط مع الشهيدين رضا حريري وبدوي، كما خطّط لعملية الشهيد عامر كلاكش على بوابة المطلة.
عام 1983، بدأ بتطوير الوحدة العسكرية في الجنوب، فأنشأ تشكيلات ميدانية وفقًا لاختصاصات دقيقة، واستقطب كادرات من البقاع وبيروت لتعزيز الجبهات. بعد انسحاب العدوّ من بعض المناطق عام 1985، شارك مع الشهيد السيد عباس الموسوي في تنظيم المحاور (الإقليم، النبطية، بنت جبيل، صدّيقين) والقطاعات الخلفية. قاد عمليات نوعية على مواقع الاحتلال مثل سجد، برعشيت، الحقبان، وبئر كلّاب، إضافة إلى الرد على الاعتداءات بقصف المستوطنات.
في إيران وعلى جبهات الجنوب
سافر إلى إيران عام 1986، حيث شارك في جبهات الحرب وتلقّى تدريبات عسكرية وبحرية، ودرس في الحوزة العلمية. بعد عودته عام 1988، تسلّم قيادة الوحدة العسكرية وخطّط لعمليات استشهادية في كفر كلا والخردلي، بالتنسيق مع السيدين عباس الموسوي وحسن نصر الله، وأشرف على العمل خلف الشريط المحتل في البقاع الغربي ومنطقة مرجعيون.
بعد استشهاد السيد الموسوي عام 1992، تولّى القيادة العسكرية المركزية وعمل على تطوير الوحدات الجوية والبحرية. عام 1993، قاد عمليات الرد على عدوان "عين كوكب" وهجوم "ثكنة العيشية" وشارك ميدانيًا في عملية "الدبشة" في حرب الأيام السبعة. عاد إلى إيران حتّى عام 1996، ثمّ شارك مباشرةً في إدارة حرب "عناقيد الغضب" ميدانيًا. بعدها، تولّى مسؤولية القوّة الجوية حتّى عام 1999.
عام 1999، تسلّم مؤسسة الجرحى وأشرف على تأهيل المصابين ودمجهم في صفوف المقاومة. بعد تحرير الجنوب عام 2000، عُيّن معاونًا لـ"الحاج رضوان" في الجنوب، واضطلع بمهمة الإشراف على الجهوزية والتخطيط حتّى عام 2006، حيث قاد حرب "الوعد الصادق" عقب عملية الأسر في "خلة وردة" في عيتا الشعب. وبعد الانتصار، أنشأ "مقر سيد الشهداء" لإدارة العمليات في الجنوب، واستمر بقيادته حتّى استشهاده.
من القلمون إلى غزّة
كان الحاج أبو الفضل أحد أبرز القادة الميدانيين الذين لعبوا دورًا محوريًا في المواجهات خارج لبنان، متنقّلًا بين سورية، العراق، اليمن، وفلسطين، ومؤدّيًا أدوارًا قتالية واستشارية وتنظيمية في إدارة المعارك، وتشكيل الوحدات، ونقل الخبرات.
منذ عام 2011، استجاب لطلب قيادة المقاومة بإرسال كوادر إلى سورية للمشاركة في التصدي للجماعات التكفيرية، إلى جانب بدر الدين والجنرال قاسم سليماني. وأرسل تشكيلات من "مقر سيد الشهداء" إلى جرود القلمون والمحاور الشرقية، وصولًا إلى تحرير الجرود في ما عرف بـ"التحرير الثاني".
عام 2015، كلّفه السيدنصر الله بتشكيل قوة خاصة باسم "قوة الغدير" للمشاركة في معركة تحرير كفريا والفوعة، وانتقل بنفسه إلى حلب حيث أدار المعارك ميدانيًا لستة أشهر، وتعرّض خلالها للحصار مرات عدة، وظل يتابع تلك القوّة حتّى استشهاده. كما أرسل سرايا دعم إلى مناطق السيدة زينب والسيدة رقية، وشارك في معارك تدمر، وفكّ الحصار عن دير الزور والبوكمال.
بعد "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول 2023، تولّى إدارة عمليات الإسناد الميدانية على الجبهة، ليُكلّف لاحقًا بقيادة "مقر خاتم الأنبياء" في المجلس الجهادي، بقرار من السيد نصر الله، خلفًا للسيد محسن شكر الذي استُشهد في 25 آب 2023.
عام 2014، ومع سقوط المدن العراقية بيد ""داعش""، زار سليماني لبنان طالبًا إرسال كوادر إلى العراق. وفي الليلة نفسها، أرسل أبو الفضل عشرين مقاتلًا من تشكيلات "مقر سيد الشهداء"، أبرزهم الشهيد أبو محمد سلمان، أحد قادة التصدي في عيتا الشعب عام 2006، والذي استُشهد في العراق إلى جانب الحاج أبو نعمة وآخرين.
وبتكليف من السيد نصر الله أيضًا، أرسل كوادر إلى اليمن وأسهم في نقل تجربة المقاومة إلى مختلف الفصائل الجهادية في المنطقة، خصوصًا الجهات الفلسطينية. مثّل القيادة في لقاءات مع القيادات العسكرية اليمنية، وكان السفير الخاص للمقاومة في توطيد التعاون مع محور صنعاء.
ومنذ انطلاقته، أولى الشهيد أبو الفضل الملف الفلسطيني أهمية خاصة، فأسّس معاهد دراسية وتدريبية لتأهيل كوادر فلسطينية، وقدّم دعمًا مباشرًا للفصائل الفلسطينية، وأسهم في نقل التجربة القتالية والتنظيمية إليها.
وفي فترات سابقة، أوفد كوادر إلى البوسنة والهرسك وأفغانستان، لدعم حركات المقاومة في تلك البلدان.