مقالات
يشهد العالم اليوم اشتباكًا استثنائيًا غير بعيد عن حرب باردة بمستوى غير مسبوق، عناصرها تقوم على إظهار الأطراف الفاعلة قدراتها النووية الإستراتيجية، من خلال إطلاق العنان لتنفيذ تجارب نووية، لناحية تجربة وسائل الإطلاق للأسلحة النووية، أو من خلال الشروع بتنفيذ تجارب للأسلحة النووية بحد ذاتها، وكلّ ذلك في ظل اشتباك إستراتيجي بعناوين اقتصادية وسياسية وطائفية وعنصرية، تطبع العالم بمشهد لا يدعو أبدًا إلى التفاؤل.
بالمبدأ، ومع متابعة أغلب مسارات الصراع الإستراتيجي الدولي، منذ بدايته وحتّى الأمس القريب، كانت كلّ معطيات هذا الصراع تترجم أعمال وإستراتيجيات كلّ قطب دولي قادر، بمحاولة استغلال ما يمتلكه من قدرات وأسلحة غير تقليدية، بهدف الفوز بالسباق على النفوذ وفرض السيطرة وتحقيق المصالح الخاصة من جهة، ومن جهة أخرى، في محاولة استغلال هذه القدرات نحو السعي لامتلاك وفرض قدرة ردع بوجه الآخر، ليبدو المشهد مضبوطًا من خلال الردع المتبادل من جهة، ومن جهة أخرى بسبب قناعة كلّ طرف بحتمية هلاك الجميع في حال انفلات القيود الممسكة بقدرات وبأسلحة الدمار الشامل حول العالم.
أما ما يحصل اليوم لناحية الجنوح أكثر وأكثر، ومن قبل الأقطاب الدوليين الذين يملكون أسلحة الدمار الشامل الأعنف عالميًا، نحو إظهار القدرات الهجومية بشكل علني وبطريقة فيها الكثير من التحدّي غير المتوازن، الأمر الذي يؤشر إلى اقتراب هذا التحدّي من الخط الأحمر الخطير، والذي طالما كان هامش الحيطة عنه واسعًا وآمنًا بما فيه الكفاية، على عكس ما يحصل اليوم، لناحية اضمحلال مساحة هذا الهامش شيئًا فشيئًا وبشكل شبه متواصل.
في الواقع، وإذا تابعنا بشكل موضوعي، مسار هذا الاشتباك الإستراتيجي، يمكن أن نكتشف هوية الجهة المسؤولة الأولى عمّا وصل إليه العالم اليوم من مستوى خطير وغير متوازن على صعيد الأمن الدولي، وهذه الجهة هي الولايات المتحدة الأميركية وبكل وضوح، وأسباب ذلك يمكن الإشارة إليها كالآتي:
- انتشار وحداتها حول العالم بشكل يتجاوز المعقول والطبيعي، من "الشرق الأوسط" إلى شرق آسيا وعمق المحيط الهادي، إلى شرق أوروبا ومناطق البلطيق صعودًا باتّجاه القطب الشمالي وجزيرة غرينلاند، دون أن ننسى البحر الكاريبي ومناطق دول أميركا الوسطى كافة، وليبدو الأمر وكأنها مكلفة بإدارة الدول الشعوب، وبالطريقة التي تختارها وتحددها.
- تدخل الولايات المتحدة الأميركية بأغلب ملفات ونزاعات الدول والمناطق، عبر استغلالها للازمات والخلافات بين الدول أو بين الأطراف داخل كلّ دولة، وتسعيرها عبر أذرعها وسياساتها المشبوهة.
- ضربها عرض الحائط كلّ القوانين الدولية وقرارات المؤسسات الدولية الضامنة لحقوق الدول والشعوب، من خلال السيطرة على هذه المؤسسات وتوجيه قراراتها بما يخدم الأجندة الأميركية.
ومع هذا المستوى المرتفع من التشنج الدولي الذي تسببه هذه السياسة الأميركية، ومع كلّ هذا التوّتر "الجيوسياسي" الذي تفرضه اليوم واشنطن عبر إدارتها للملفات الدولية الحساسة، جاء القرار الأخير للرئيس ترامب، بإطلاق العنان للتجارب النووية، وبمسار غير واضح وفيه الكثير من الالتباس، بين أن تكون تجارب للوسائل المعنية بإيصال الرؤوس النووية، أو تجارب لهذه الرؤوس النووية بحد ذاتها، وبتجاوز فاضح لكل ما توصل إليه المجتمع الدولي لناحية المعاهدات التي تضبط وتقيد انفلات الأسلحة النووية حتّى اليوم.
من هنا، يمكن أن نلتمس خطورة المنحى الذي تسير إليه العلاقات الدولية اليوم، تبعًا لسياسات الإدارة الأميركية، ومن هنا يمكن أن نستنتج مسؤولية هذه الإدارة في تضييق هامش الأمان الذي يحمي العالم ويضبط انفلات أسلحة الدمار الشامل.