اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي الشيخ الخطيب يهنئ الحكومة والشعب العراقي بإنجاز الانتخابات

مقالات مختارة

تلازم القوة والمنطق في صناعة القرار
مقالات مختارة

تلازم القوة والمنطق في صناعة القرار

60

علي حيدر- صحيفة "الأخبار"

تُشكّل العلاقة بين منطق القوّة وقوّة المنطق، أحد أكثر المحاور حساسيةً في الفكر السياسي والإستراتيجي، إذ تتجاوز بُعدها النظري لتلامس جوهر الفعل الإنساني والجماعي في التاريخ. فالمجتمعات، منذ نشوء الدولة الأولى، واجهت دائماً سؤال الوجود والهيمنة: هل تُبنى السيادة على القوّة المجرّدة أم على منطق الحقّ والعقل؟ وهل يستطيع المنطق أن يصمد في مواجهة الباطل إن لم يُسنَد بقوّةٍ تردّ العدوان وتردع الطغيان؟

دلّ التاريخ، في تجاربه الكبرى، على أنّ الأمم التي امتلكت القوّة من دون منطقٍ سقطت في هاوية الاستبداد، والأمم التي امتلكت المنطق من دون قوّةٍ صارت فريسةً للمحتلين والمستكبرين. ومن هذا المنطلق، لا يمكن النظر إلى القوّة والمنطق كضدّين متقابلين، بل كركيزتين متكاملتين في معادلة البقاء والكرامة.

هناك مغالطة كبيرة، عندما يتم وضع منطق القوّة وقوّة المنطق في موقع التضادّ، كما لو أنّ على المجتمعات والدول أن تختار أحدهما على حساب الآخر. فالقوّة من دون منطق ليست سوى وصفة للتهوّر والطغيان، والمنطق من دون قوّة ليس إلا صرخةً في فراغ، خصوصاً إذا كان في مواجهة كيان مثل إسرائيل، وهو عدوّ قائمٌ على العدوان والاغتصاب، إذ يتحوّل المنطق الأعزل حينها إلى مصدر تهديدٍ سياديّ وأمنيّ وإستراتيجيّ.

ولعلّ أبرز نموذجٍ عمليٍّ لهذه الحقيقة هو حالُ العالم العربيّ في مواجهة العدوّ الإسرائيليّ والهيمنة الأميركيّة، حيث جرى التخلّي عن تفعيل عناصر القوّة الكامنة والفاعلة، فكانت النتيجة انكشافاً على المستويات كافّة: ضياع فلسطين، اهتزاز الاستقلال الوطنيّ، تعثّر مشاريع التنمية والتقدّم، وانكفاء الإرادة السياسيّة أمام منطق الإملاء الخارجيّ.

هذا المفهوم لا ينتمي إلى حقل التنظير المجرّد أو الخطاب الفلسفيّ المنعزل، بل تكمن أهميّته وخطورته في كونه يوجّه السلوك السياسيّ للمجتمعات والدول، ويشكّل محرّكاً أساسيّاً في عمليّة صنع القرار، وركيزةً جوهريّةً في بناء أيّ نهضة أو مشروع استقلاليّ.

بعبارةٍ أخرى، هذه المفاهيم ليست شعاراتٍ، بل بوصلةٌ فكريّةٌ وسياسيّة تحدّد اتجاه الحركة التاريخيّة للمجتمعات، وتضبط منطلقاتها الأخلاقيّة والإستراتيجيّة، وتؤمّن الانضباط المنهجيّ في الطريق إلى تحقيق الأهداف المرسومة.

وتؤدّي هذه المفاهيم دورها المفصليّ لأنّها تمثّل الإطار الذهنيّ الذي يُحدِّد كيفية إدراك الفاعلين السياسيين للواقع، وتؤثّر مباشرة في قراراتهم وإستراتيجياتهم. فإذا انطلقت من وعيٍ متجذّرٍ بالواقع، أصبحت قادرةً على إنتاج القوة وبناء الاستقلال وتحقيق النصر. أمّا إذا انفصلت عن الواقع، فإنّها تتحوّل إلى حركةٍ قهريّةٍ نحو الهاوية مهما كانت النيّات طيّبة أو الخطابات سامية.

وتقدّم تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان نموذجاً فريداً في التفاعل الجدليّ بين المنطق والقوّة. فقد أثبتت أنّ قوّة المقاومة والمنطق الذي استندت إليه لم يكونا على طرفي نقيض، بل في علاقة تكاملٍ وتفاعلٍ دائمَين. ومنذ انطلاقتها، وُوجهت المقاومة بمقولاتٍ تشكّك في منطقها العقليّ وتصفها بالانفعال، لكنّ التجربة التاريخيّة أثبتت صدقيّة منطقها القائم على التوازن الدقيق بين القوّة الميدانيّة والعقل الإستراتيجيّ الذي يوجّهها ويعبّر عنها.

أيّ مفاوضات من دون مرتكزٍ للقوّة تتحوّل إلى عمليّة إملاء من طرفٍ أقوى على طرفٍ أضعف، وتجربة حزب الله مفيدة كنموذج في إدارة الصراع

ولا تزال مواقف وخطب الأمين العام لحزب الله الشهيد السيّد حسن نصر الله، وامتداداً له خطابات أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، تعبّر بعمقٍ عن هذا الوعي الجدليّ، إذ أكّد مراراً أنّ المقاومة «ليست عشوائيةً أو استعراضيةً أو انفعاليةً، بل يقودها عقلٌ وعزم، فلا هي جبانةٌ تتخلّى عن المسؤولية، ولا هي مجنونةٌ تذهب بوطنها وشعبها إلى وديان الهلاك» (15 شباط 2004).

هذا التوصيف الدقيق التقطه قادة العدوّ وخبراؤه، ومنهم رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيليّة إبّان تحرير عام 2000، اللواء عاموس مالكا، الذي وصف منطق المقاومة بقوله: «الشكل الذي يدير عبره نصر الله تنظيمه ينطوي على الدمج بين التفكير الإستراتيجي والسيطرة الدقيقة على التفاصيل والعمل التكتيكيّ الميدانيّ والاستخدام الذكيّ للعامل النفسيّ» («يديعوت أحرونوت»، 26 أيلول 2001).

هذه الشهادة من الخصم تؤكّد أنّ العقل المقاوم استطاع أن يصوغ منطقاً إستراتيجياً موازياً لقوّته الميدانيّة، بحيث لم يعد أحدهما تابعاً للآخر، بل صار كلٌّ منهما يُغذّي الآخر في دورةٍ تكامليّةٍ مستمرّة.

وفي مواجهة عدوٍّ يتفوّق بكلّ المعايير الماديّة والعسكريّة والتكنولوجيّة والسياسيّة، لا يمكن في أيّ مرحلةٍ من مراحل الصراع الاستغناء عن قوّة المقاومة، لأنّ أيّ مفاوضاتٍ - مباشرةٍ كانت (بغض النظر عن الموقف منها) أو غير مباشرة – لا تستند إلى قوّة، تتحوّل إلى عمليّة إملاء من طرفٍ أقوى على طرفٍ أضعف. وحتى لو أُخذت في الحسبان بعض الاعتبارات السياسيّة أو الظروف المرحليّة، فإنّها تبقى عوامل عابرة لا تصمد أمام مشروعٍ إستراتيجيّ يسعى إلى إخضاع لبنان.

وهذا ما عبّر عنه بنيامين نتنياهو أمام الكنيست (16 تشرين الأوّل 2020) حين قال: «طالما أنّ حزب الله يسيطر على لبنان، فلن يكون هناك سلامٌ مع هذا البلد». وعندما قدر أن موازين القوى قد تغيرت، خاطب نتنياهو بالصوت والصورة (بعض) اللبنانيين في الثامن من تشرين الأول 2024، خلال معركة أولي البأس، للانتفاض على حزب الله مستنداً في ذلك إلى أنه أصبح «أضعف مما كان عليه». ويبدو أن في تل أبيب من يقدّر بأن اللحظة السياسية قد اكتملت للانقضاض السياسي عبر «السلام» كمدخل لتحقيق الأهداف الأخرى.

التاريخ البشريّ لا يعرف لحظةً واحدةً استطاع فيها منطقٌ أن ينتصر على عدوٍّ من دون قوّةٍ تحميه، ولا قوّةً استطاعت أن تحافظ على استمراريتها من دون منطقٍ يُشرعنها ويهديها. فالقوّة من دون عقلٍ تتحوّل إلى طغيانٍ وانهيار، والمنطق من دون حمايةٍ يتحوّل إلى حلمٍ عابرٍ تذروه رياح الموازين.

وقد أثبتت التجربة اللبنانية أنّ الوعي المقاوم حين يتّحد مع الإرادة المسلّحة يتحوّل إلى منظومة ردعٍ متكاملةٍ قادرةٍ على دفع أشد أنواع المخاطر، الاحتلال والدفاع. وينبغي أن لا ننسى أننا نعيش في عالم لا يمكن أن تُنبى فيه الأمم بالنيات الحسنة ولا بالمنطق الأخلاقيّ وحده، بل تُبنى حين يكون المنطق قوةً، والقوة منطقاً.

الكلمات المفتاحية
مشاركة