اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي شهداء في كفر عقب وخان يونس وسط عمليات "إسرائيلية" متواصلة في الضفة وغزّة

مقالات مختارة

الإبادة تطال البيوت التراثية:
مقالات مختارة

الإبادة تطال البيوت التراثية: "إسرائيل" تريد محو ذاكرة الجنوب

44

غادة حداد - صحيفة الأخبار

مرّ أكثر من عامين من العدوان "الإسرائيلي" المتواصل على جنوب لبنان. خلف أخبار القصف والتهجير، تتكشف كارثة عمرانية حقيقية، ومعها خطر محو الهوية الجنوبية، في مسار تعمل عليه "إسرائيل" بشكل ممنهج.

هذه الخطة تظهر بوضوح في نتائج المسح الميداني الذي أجرته جمعية "بلادي" للمنازل التراثية في منطقة النبطية.
تأسست "بلادي" عام 2005، ونالت العلم والخبر عام 2011، بهدف العمل على التربية والمحافظة على التراث. وبعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، تحوّل تخصّصها إلى ما يُعرَف عالميًا بحماية التراث في فترات الطوارئ، سواء في الحروب أو في الأزمات الطبيعية.

انطلاق المسح
تروي رئيسة الجمعية جوان فرشخ بجالي في حديث معنا مسار العمل على هذا المسح، منذ بداية الحرب "الإسرائيلية" على لبنان. بدأت الجمعية برصد الوضع عبر الإعلام، ثمّ أصدرت أول تقرير لتقييم الأضرار على الأبنية التراثية، عند إعلان وقف إطلاق النار. وتقول بجالي إن هدف الجمعية كان العمل على منازل الناس "انطلاقًا من مبدأ أنه لا يمكن عزل الناس عن تراثهم، فالمنزل لا يُعدّ ملكية خاصة فقط، بل يعدّ جزءًا من العام، ومن نسيج الجماعة، ومكوِّنًا أساسيًا من هوية المكان".


بعد التقييم الأولي، انتقل الفريق إلى تقييم الأضرار على الأرض، وكان لا بد من اختيار عيّنة. حُدّدت النبطية وخمس قرى مجاورة هي: النبطية التحتا، النبطية الفوقا، زوطر الشرقية، زوطر الغربية، وكفر تبنيت. وقبل الوصول إلى هذه القرى، فُعِّلت مذكرة التفاهم بين الجمعية والجامعة اللبنانية، والاستعانة بطلّاب كلية العمارة.

بدأ العمل الميداني في 4 كانون الثاني (يناير) الماضي، بعد نحو شهر من إعلان وقف إطلاق النار، في فترة مهلة الستين يومًا، حين لم يكن جميع الناس قد عادوا بعد إلى الجنوب، واستمر حتّى حزيران (يونيو) الفائت.

جرى العمل بالتنسيق مع البلديات والجيش اللبناني قبل التوجّه إلى القرى، وقد رحّبت البلديات بهذه الخطوة لعجزها عن القيام بمسح مماثل بنفسها. أسهم عدد من الطلاب في أعمال المسح بالتوازي مع دراستهم، وتولت الجامعية رنا الدبيسي، المسؤولة عن الناحية العلمية للدراسة، مهمّة التنسيق الأكاديمي بين الجمعية والجامعة.


تقول بجالي إنهم جمعوا هذه البيانات "لإعادتها إلى أهلها". وفي اليوم الذي نزل فيه الطلاب إلى الميدان، كانت المنازل لا تزال مدمّرة، والسكّان يبحثون عن أغراضهم بين الركام، وآخرون يتلقّون للتوّ خبر وفاة أبنائهم. كان الوضع قاسيًا جدًا على الطلاب وذويهم، خصوصًا أن معظمهم من أبناء الجنوب. لكن حفاوة استقبال الأهالي، واهتمامهم الشديد بالحفاظ على منازلهم، منحاهم دفعًا كبيرًا للاستمرار في العمل.

رسم الخرائط من الصفر
بدأت التحدّيات الفعلية مع النزول إلى الأرض. طلب الفريق خرائط تحدّد أماكن انتشار المنازل التاريخية، لكن لم تكن هناك أي خرائط متوافرة، ما جعل العمل شبه تعجيزي. اضطرّت الدبيسي وفريقها إلى إنجاز خرائط مدينة النبطية بأنفسهم. تشرح لنا أنّ هذه العملية تمت على ثلاث مراحل بدءًا من التحقيق الميداني، مرورًا بتعبئة استمارة وُضِعت خصيصًا لهذا البحث، وصولًا إلى مرحلة تأكيد المعلومات وتدقيقها.
وللمرة الأولى، باتت لهذه المناطق خرائط تفصيلية بأبنيتها، بما فيها الأبنية التراثية. حتّى وزارة الثقافة حصلت للمرة الأولى على هذه البيانات.

تصف بجالي هذه المرحلة بأنها محاولة حقيقية لـ"اكتشاف تراث الجنوب"، في ظل غياب الدراسات المعمّقة حول ماهية التراث المعماري هناك، وأنماط البناء المعتمدة في منازل الجنوب.

ولتصنيف منزل على أنه تراثي، اعتُمد معيار واحد هو أن يكون قد بُني قبل عام 1950. انطلاقًا من ذلك، جرى تصنيف الفترات الزمنية التي يعود إليها كلّ منزل، بحسب النمط الهندسي الذي بُني على أساسه. فالمنزل التاريخي ليس معزولًا، كما تقول الدبيسي: "هو جزء من شبكة كانت موجودة وحية، فالحجر المستخدم كان متوافرًا آنذاك، وطريقة صناعته كانت الطريقة المتعارف عليها، وهو جزء من منظومة كاملة. ما حاولنا القيام به هو تحديد هذا النموذج التراثي، لنؤكد أنه لا يزال حيًا، لأن الناس لا يزالون يستخدمونه ويسكنونه".

وخلال العمل، تبيّن أيضًا أنّ لا خرائط للمباني التراثية في الجنوب، وهذه حال عامة في لبنان باستثناء بيروت. فلا خرائط ولا تصنيف واضحًا للأنماط الهندسية، رغم أن الأدوات المستخدمة في البناء جميلة ومتقنة جدًا.

تاريخ الجنوب مهدَّد
عندما نزل فريق العمل إلى النبطية وسأل عن التقدير المتداول لعدد المنازل التاريخية، قيل له إنّها لا تتجاوز 30 منزلًا. لكن المسح كشف عن وجود 147 منزلًا، وهذا ليس العدد النهائي، لأن حيّ الميدان احتُسب موقعًا واحدًا، كما أُحصيت سبع كتل في السوق ككتلة واحدة، ما يعني أنّ العدد الفعلي أكبر بكثير. وتبيّن أنّ 85 في المئة من الأبنية التراثية هي منازل سكنية، ما يدل على أن أهل الجنوب يعيشون مع تراثهم، يحبّونه، ويحافظون عليه، باعتباره جزءًا من حياتهم اليومية.


عمل الفريق على تصنيف زمني للمنازل لمعرفة مراحل بنائها. وتبيّن أنّ 42 في المئة من منازل النبطية بُنيت بين عامَي 1902 و1930، وهي فترة شهد فيها جبل عامل ازدهارًا اقتصاديًا انعكس مباشرة على العمران.

كانت مرحلة بناء مكثّف رسّخت النبطية كمدينة ومركز للسلطة، وتزامنت مع نهاية العهد العثماني وبداية الانتداب الفرنسي، ومع تبدّل السلطات ودخول الأموال. وامتدّت حركة البناء هذه حتّى عام 1950، إذ بُني 75 في المئة من المنازل التاريخية في تلك الفترة. كما تبيّن أنّ 67 في المئة من هذه المنازل شُيّد بعناية هندسية واضحة، مع اهتمام كبير بالحجر والتزيين والمندلون.

قبل الحرب الأخيرة، كانت نحو 25 في المئة من منازل الجنوب متضرّرة، وهي نسبة طبيعية تعود إلى عوامل مثل الهجران، أو وفاة أصحاب المنازل، أو عدم اهتمام الورثة بها. لكن بعد خمس سنوات من الأزمة والصراع، ثمّ الحرب، تغيّر المشهد بالكامل: ثمانية منازل دُمّرت كليًا، و21 منزلًا تضرّرت بشكل قاسٍ جدًا نتيجة القصف المباشر أو تطاير الباطون، فضلًا عن 43 منزلًا آخر أصيب بأضرار متفاوتة.

ومع احتساب نسبة الـ25 في المئة السابقة، يصبح 66 في المئة من المنازل التراثية في الجنوب متضرّرة. هذا الرقم يوضح إلى أي حدّ بات تاريخ الجنوب مهدَّدًا. وطالما أنّ القصف لا يزال مستمرًا، يعني أنّ نسبة الأضرار مرشحة للارتفاع أكثر.

العمارة المحلية كهوية حيّة
يضيء تقرير جمعية "بلادي" على أهمية العمارة المحلية، لارتباطها بالمكان وبالسياق الاجتماعي والبيئي المحيط به. وتوضح الدبيسي أنّ هذه هي المرة الأولى التي تُمنَح فيها هذه العمارة مكانتها اللائقة، "فالموقف التقليدي الكلاسيكي من التراث في لبنان حتّى اليوم كان يحصر العمارة في إنتاج الطبقة البرجوازية، لا في عمارة الناس والمزارعين. هذه العمارة المحلية، معروفة عالميًا باسم vernacular architecture، إذ إن التراث ليس موضوعًا نخبويًا، بل هو ملك لكل الناس، وهو موطئ قدمهم في هذه الأرض، ولذلك يجب المحافظة عليه، بوصفه موقفًا وجوديًا في هذا المكان".

وتوضح أنّ شكل المنزل كان يستجيب لحاجة يومية، لأنه في الأساس نمط حياة. وجود الرواق أمام البيت كان ضرورة للعمل خارجه. أما غياب القرميد عن معظم المنازل القروية، فيعود لاستخدام الأسطح لتجفيف الأكل وصناعة المونة. لذلك لا علاقة لأي تفصيل في هذه البيوت بالزينة أو الجماليات، بل هو تفصيل بنيوي مرتبط بطريقة العيش والبقاء. من هنا، لا يأتي الحفاظ على هذه المنازل من دافع عاطفي فقط، بل من قيمتها العلمية والتاريخية والوجودية، لأنها تعبّر عن أناس عاشوا هنا قبل 200 عام وبنوا هذه المساكن على ما عرفوه وورثوه.


تقول بجالي إنّ هذه المنازل تعنى الكثير للناس لأنها بيوت أجدادهم. هم لا يعرفون أنها "تراثية" بالمعنى العلمي، ولا يدركون نمطها الهندسي، لكنّهم يعرفون جيدًا أن هذه المنازل مهمّة جدًا للعائلة. وقد بُنيت هذه البيوت بالمعرفة المتوارثة والمشتركة في المنطقة. معرفة جرى توثيقها لاحقًا ضمن علم الهندسة لتصبح جزءًا من المعرفة الأكاديمية. وتوضح أنّ طرح التراث الهندسي بهذا الشكل جديد نسبيًا، وبدأ خلال مرحلة إعادة الإعمار في التسعينيات، حين انطلق النقاش حول وسط بيروت، قبل أن يتوسّع اليوم ليشمل مناطق أخرى.

بين الترميم والاستحالة
ترميم منازل الجنوب ممكن، لكن ليس كلها، فالتي دُمّرت بالكامل لا يمكن إعادة بنائها، لغياب القدرة على صناعة الحجر القديم بالطريقة نفسها. وقد برز تساؤل أساسي حول نوع السلاح الذي حوّل الحجر التاريخي إلى رماد، مع أنه حجر طبيعي خالٍ من الحديد والباطون والترابة.

أما المنازل المتضرّرة جزئيًا فيمكن ترميمها، وهنا يكمن الرهان الأساسي. وهذا يتطلّب إدراج هذه الأبنية ضمن خطة إعادة الإعمار، وتخصيص حوافز للمحافظة عليها. فلا بلديات الجنوب قادرة على تحمّل هذه المسؤولية وحدها، ولا الدولة تستطيع رميها على المموّل الخارجي، وفق بجالي. وتضيف أن هذه مسؤولية مشتركة بين الجميع، وقرار يجب أن يُتخذ على مستوى سياسي من قِبل كلّ الأطراف، من وزارات وبلديات، بوصفهم السلطة الفعلية على الأرض.

وتشير بجالي إلى أن الخطوة العملية اليوم تكمن في تصنيف هذه المنازل في خطة إعادة الإعمار، وفرض مسؤولية الحفاظ عليها، وعلى أصحابها إيجاد آليات دعم واضحة تساعدهم في ذلك. وتلفت إلى أنّ الجمعية أجرت سابقًا مسحًا في مدينة بعلبك، وتبيّن أن المنازل التراثية هناك لم تتضرر كثيرًا بالقصف.

أما جنوب الليطاني، فالوضع مختلف تمامًا. ما أظهرته الصور يشير إلى نوع آخر من الدمار، حيث تقع المنازل التاريخية بين الأبنية الجديدة، ما يجعلها عرضة للطمس خلال عمليات الجرف والردم. لذلك يُعتمَد في المسح هناك على الصور الجوية الملتقطة قبل الحرب، في محاولة للحد من الخسائر والحفاظ على ما يمكن ترميمه.

مسح ممنهج لسكان الجنوب
تشدّد بجالي على أنّ تدمير المنازل التاريخية هو أخطر ما يحصل اليوم، لأنه يحقق هدف العدوّ في محو حقبة كاملة من الزمن، وقطع انتقال الهوية من جيل إلى جيل. فالعلاقة بالمنزل القديم ليست علاقة حجارة فقط، بل علاقة بالجدّ والأهل والذاكرة والهوية المتجسّدة في المكان. تدمير هذا المكان يعني تحويل الناس إلى مجرّد ذكريات بلا أرض.

وهذا ما تعتبره بجالي محاولة لاقتلاع أهل الجنوب من جذورهم. فإذا لم تُدرج الأبنية التاريخية ضمن خطة إعادة الإعمار بوصفها أولويةً مفروضة، يُنفَّذ ما يريده العدوّ بالكامل: محو الهوية والذاكرة والانتماء.

وتوضح الدبيسي أنّ كلّ خرائط ودراسات إعادة الإعمار تُعدّ اليوم في وزارة واحدة، في ما يتبع ملف التراث وزارة أخرى، ما يخلق فجوةً كبيرة. فوزارة الثقافة لا تمتلك فريقًا لإعداد الخرائط أو تقديم الاقتراحات للتنظيم المدني. وعند صدور أي قرار، يبرز السؤال دائمًا: أين نُصنّف هذه المنازل؟


وتضيف أنّ ملف التراث في العالم أجمع ينتقل عادة بين الوزارات، لتأمين التمويل والحماية في إطار رؤية مشتركة، بعيدًا من المنطق العقاري الربحي الذي يحصر قيمة المباني بسعر المتر المربع. أما في لبنان، فلا دراسة حتّى الآن لدى وزارة الثقافة تسمح بإدراج هذا النسيج العمراني والتاريخي في أي خطة اقتصادية أو إنمائية.

وبحسب القانون، يحق للبلديات إصدار قوانين حماية، وهذا ما تعمل به بعض البلديات فعلًا. لكن غياب قانون وطني مُلزِم يجعل الاستجابة متروكة لإرادة كلّ بلدية على حدة، وهي تمثّل القوى الفاعلة على الأرض ولها مصالحها الخاصة. وفي ظل غياب الحوافز، تصبح حماية التراث قرارًا صعبًا ومعقّدًا.

ثغرات القوانين ومحاولات الحماية
يقول مستشار وزير الثقافة، المهندس جاد تابت، لـنا إن الوزارة منحت دراسة "بلادي" اهتمامًا كبيرًا، إلى جانب دراسات أخرى تعمل عليها الجامعة اللبنانية في الخيام وبليدا، حيث برزت مشكلة بيع الأحجار التراثية، ما استدعى تدخّل وزير الثقافة لدى وزير الداخلية لوقفها.

كما تعمل الجامعة الأميركية في بيروت و"أشغال عامة" على دراسات إضافية. وتستعد الوزارة لعقد ورشة عمل شاملة في نهاية كانون الثاني (يناير) أو بداية شباط (فبراير)، لعرض مجمل هذه الأعمال، والتأكيد على أن التراث هو الهوية، وأن الحفاظ عليه جزء جوهري من إعادة الإعمار.

ويشير تابت إلى أن قوانين التنظيم المدني الحالية تجعل إعادة البناء في البلدات القديمة كما كانت شبه مستحيلة، لأنها تفرض تراجعًا عن الطرق والحدود، ما يخلق "مكعبات" إسمنتية غريبة عن النسيج التراثي القائم. لذلك تعمل الوزارة على طرح قوانين جديدة خاصة بالبلدات القديمة.

يؤكد تابت أنّ إعادة إعمار المباني المتضررة هي الأولوية، وأنّ ما دُمّر بالكامل لا يمكن تعويضه. المهم ألا يكون البناء الجديد غريبًا عن النسيج العمراني المحيط. ويذكر أنّ هناك مشروعًا لإعادة سوق النبطية، يمكن أن يعود إلى حدّ كبير إلى ما كان عليه سابقًا. وتُعدّ ورشة العمل المقبلة خطوةً أولى لإدراج حماية التراث ضمن خطط الإعمار.

وفي أول محاولة رسمية لحماية الآثار في المحافل الدولية، سجّل لبنان 34 موقعًا على لائحة اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية التراث، وهو رقم غير مسبوق عالميًا. وتكمن أهمية الاتفاقية في أنها تتيح رفع دعاوى على الدول والأفراد عند استهداف المواقع المسجّلة.

الكلمات المفتاحية
مشاركة