نقاط على الحروف
لعبة المصطلحات: حين تُقسَّم الجغرافيا بالكلمات قبل الحدود
عودة مصطلح "باشان".. بين التاريخ والوظيفة السياسية المعاصرة
كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU
عودة استخدام مصطلحات تاريخية أو هوياتية قديمة باتت ظاهرة متسارعة في الخطاب السياسي والإعلامي الصهيوني والغربي في المنطقة، غالبًا ما تُستَحضر لتكريس تصوّرات تقسيمية أو لإعادة هندسة الوعي الجغرافي والهوياتي. وما يجري ليس صدفة لغوية، بل أداة سياسية تستخدم الرموز والأسماء لإعادة تشكيل الخريطة قبل أن تتغيّر فعليًا، ومنها عودة استخدام إقليم "باشان" في سياقات تتعلق بمنطقة السويداء وجنوب سورية والمنطقة عمومًا. وهذا الكلام مرتبط بشكل مباشر بإعلان نتنياهو في خطاب أمام INNS في العام 2014 أن: "اتفاق سايكس بيكو، الذي حدد حدود منطقتنا قبل نحو قرن، قد انتهى".
عودة الأسماء التوراتية: "باشان" مثالًا
هذا الكلام مرتبط بشكل مباشر بإعلان نتنياهو في خطاب أمام INNS في العام 2014 أن: "اتفاق سايكس بيكو، الذي حدد حدود منطقتنا قبل نحو قرن، قد انتهى".
"باشان"، تسمية تاريخية تعود جذورها إلى النصوص الدينية القديمة، حيث ارتبط الاسم بمجموعة من المناطق الواقعة شرق نهر الأردن، في جغرافيا توراتية غير مطابقة للحدود السياسية الحديثة. وعلى الرغم من حضور هذه التسمية في الأدبيات التاريخية والدينية، فإنها لم تُستخدم في العصر الحديث كوصف جغرافي رسمي أو كيان إداري قائم، وتتم محاولة فرضها اليوم كمصطلح جغرافي وليس مجرد مفرد تراثي أو ديني.
لافت ارتفاع وتيرة استخدام مصطلح "باشان" للتداول، منذ إعلان رئيس وزراء الكيان لنهاية سايكس بيكو، في بعض الخطابات والبيانات ووسائل التواصل الاجتماعي سواء أكانت بهدف التحذير من الخطط الصهيونية أم للتفاخر في الوسائل العبرية. وبالتالي فإعادة إحياء المصطلح لم تأتِ من زاوية معرفية أو تاريخية محضة، بل لتسخيره في إطار سياسي وجيوسياسي بالغ الحساسية، ما جعل من استخدامه حدثًا مثيرًا للانتباه. يشير مركز الجزيرة للدراسات إلى أن استحضار تسميات ذات مضمون توراتي في لحظة سياسية مضطربة كما اليوم، لا يمكن فصله عن التوترات في الجنوب السوري ومحاولات بعض القوى إعادة صياغة المشهد الهوياتي في المنطقة. واستخدام المصطلح يطرح أسئلة حول الخطاب الرامي إلى تغيير دلالات المكان، واستدعاء التاريخ القديم لخدمة مشاريع سياسية أو لتبرير مقاربات جديدة للحدود والتوازنات السكانية.
المراد من المصطلح توظيفه، هو وغيره كأداة ضغط رمزية، فالإشارات الدينية المرتبطة بالمكان تستخدم لخلق سرديات متنافسة حول الشرعية والسيادة والاستعمار الاستيطاني في فلسطين والمنطقة العربية. وبذا يصبح استدعاء المصطلح جزءا من لعبة أكبر تُستحضر فيها مفردات تاريخية، ليس بهدف التأريخ بل من أجل إنتاج خطاب سياسي جديد، وتهيئة بيئة ذهنية تتقبل خرائط مختلفة أو ترتيبات مستقبلية. قد تبدو التسمية للوهلة الأولى مجرد إشارة لغوية، إلا أن ما تحمله من دلالات رمزية وارتباطات دينية يجعلها حساسة في سياق الصراع السوري، اليوم مثلًا، وتشابكه مع الأجندات الخارجية، خاصة في منطقة تشكّل عقدة توازن ديموغرافي وجغرافي كالسويداء.
مصطلحات يتم تداولها منذ "ربيع 2011"
وهكذا، فإن عودة مصطلح "باشان" إلى الواجهة ليست مجرد استدعاء غير مقصود لتراث قديم، بل يعكس حراكًا سياسيًا عميقًا، تستخدم فيه اللغة كأداة لإعادة تشكيل قراءة المكان وصياغة صورته في الوعي الجمعي. وقد ظهرت أربع مجموعات من المصطلحات للظهور، وهي:
مصطلحات دينية - توراتية أو من العهد القديم، وهو نوع من المصطلحات تستخدم لربط مناطق حالية بخطابات دينية يستخدمها الصهاينة والمراد منها إضفاء شرعية تاريخية مرتبطة بخطابات دينية أو رمزية لتبرير الاحتلالات والمجازر امام المتدينين في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، وأهمهم مجموعات الدبابير، التي تحدثنا عنها سابقًا. ومنها "باشان" في رمز لجنوب سورية، ومؤاب وإيدوم وجلعاد وجبل الحور وشرق نهر الأردن، في فلسطين والأردن، وهذه المناطق جميعها مذكورة في التوراة وفي العهد القديم. وأما الوظيفة السياسية من استخدامها فهي ربط مناطق جنوب سورية والأردن والجولان بخطابات دينية تاريخية تبرر وجود نفوذ أو تدخل معين وتهيئ الأرضية لسرديات دينية ذات بعد تقسيمي.
مصطلحات عثمانية، استخدمت ما قبل نشوء الدول الوطنية المقسمة بحسب سايكس بيكو في الوطن العربي، ويجري استحضار هذه المصطلحات في سياقات تكرس أن الكيانات الحالية مصطنعة وتجب العودة إلى مصطلحات ولاية بلد الشام أو لواء اسكندرون، هاتاي حاليًا، أو لواء حلب وسنجق القدس وولايات الموصل وبغداد والبصرة... وغيرها. وأما الوظيفة السياسية لهذه المصطلحات فللعب من جديد على العقول بأن الدول الحالية ليست سوى كيانات مصطنعة وتجب العودة إلى ما قبل 1918، وانهيار السلطنة العثمانية.
مصطلحات إثنية - هوياتية، أي متعلّقة بهويات جديدة أو قديمة، وهي استحضار للهويات ما قبل سايكس بيكو، وعادة ما ترتبط بمشاريع انفصالية مثل روج آفا، مصطلح دولة كردية في شرق سورية، أو مصطلح الجزيرة، بلاد ما بين النهرين. ومنها ما هو مرتبط بالإثنيات والطوائف مثل، دروز الجبل، وكأنهم مختلفون عن دروز لبنان وفلسطين، وأخرى مثل: العشائر والبدو والسريان والآشوريين والعلويين. والمطلوب سياسيًا هنا التأكيد على وجود "مجتمعات إقليمية مستقلة" قابلة للتحول إلى كانتونات أو مناطق حكم إدارة ذاتية، وإن لم تنفصل عن البلد الأم، وهو مشروع أميركي بامتياز تم البدء فيه في مناطق شرق الفرات، بإنشاء إدارة ذاتية لأكراد سورية "قسد". ومن هذه المصطلحات مصطلح "جنوب الليطاني"، وليس جنوب لبنان، وتسمية جنوب الليطاني تسمية خطيرة تظهر بوضوح نية الصهيوني بالتمدد إليها وبناء المستوطنات فيها.
مصطلحات استعمارية أعيد احياؤها، وهي المصطلحات التي تظهر في كلّ يوم في التقارير الدولية والإعلامية في وصف مناطق "النزاع" بدل المقاومة في مناطق محتلة، ومصطلحات: المناطق الآمنة، والمناطق المنزوعة السلاح، والخطوط الحمراء، ومناطق صفراء، وإقليم الجنوب، والممر أو المعبر الإنساني، وخطوط الفصل، وجميعها مصطلحات من أجل تكريس فصل المناطق وظيفيًا والمطلوب تحويلها من واقع عسكري مؤقت إلى واقع تقسيم شبه رسمي، كالحديث عن الخط الأصفر في فلسطين، والمناطق أ - ب - ج، أو كما الحديث عن الأقليات مع نزع الهوية الوطنية عنهم، أو الحديث عن تعبير locals، أي السكان المحليون بدلًا من citizens، أي مواطنين، تعبير في جنوب لبنان في تقارير الأمم المتحدة، للتشكيك بأنهم أصحاب الأرض وجزء من وطن.
استدعاء هذه المصطلحات ليس بريئًا، ويخدم ثلاثة أهداف واضحة:
إعادة تعريف الخريطة الذهنية: قبل أن يُقسَّم المكان على الأرض، يُقسَّم في اللغة.
إنتاج سرديات متوازية للهويات: خلق انطباع بأن المنطقة تتكوّن من "أقاليم" أو "هويات" متمايزة لا يمكن أن تعيش ضمن دولة واحدة.
تهيئة بيئة سياسية لأي ترتيبات مستقبلية: تقسيم فعلي، فيدرالية، كنتونات أمنية، أو مناطق نفوذ متعددة.
خاتمة
إن ما يجري اليوم ليس مجرد استدعاء لأسماء قديمة، بل محاولة منهجية لإعادة تشكيل الوعي السياسي تمهيدًا لفرض خرائط جديدة على المنطقة. فعودة مصطلحات مثل "باشان" و"جلعاد" ليست بريئة، بل جزء من مشروع يستخدم اللغة كسلاح ناعم لشرعنة نفوذ خارجي وتفكيك البنى الوطنية من الداخل. وهي حرب خطرة تتسلّل بصمت: تُطبِّع التقسيم في الوعي قبل أن يُطبَّق على الأرض، وتحوّل الانقسام من فكرة مرفوضة إلى احتمال قابل للنقاش ثمّ إلى واقع مفروض. ومن لا ينتبه لخطاب المصطلحات، قد يستيقظ يومًا على خرائط معدّلة باسمه ووطنه وذاكرته. فحماية الجغرافيا تبدأ بحماية مفرداتها. وأي تساهل مع قاموس يتم فرضه اليوم هو خطوة غير مباشرة نحو قبول مشاريع لا تُخفي أطرافها رغبتها في إعادة هندسة الشرق الأوسط سياسيًا وديموغرافيًا. هذه الحرب يجب علينا مواجهتها، قبل أن تتحول الكلمات إلى حدود، والحدود إلى أمرٍ واقع لا رجعة عنه.