آراء وتحليلات
الكمائن في غزة تفضح هشاشة الاحتلال عبر تصاعد العمليات النوعية
محمد الأيوبي
في قلب جغرافيا مدمّرة ومحاصرة، كانت المعادلة تبدو محسومة: قوة عسكرية كبرى تفرض أدواتها التقنية والدموية على مساحة صغيرة أنهكتها الحرب. غير أن الواقع، كما أثبتته التجربة في غزة، يعيد ترتيب نفسه ضد منطق القوة الغاشمة.
بعيدًا عن ضجيج الإعلام الرسمي ومقاييس الانتصار المصطنعة، كشفت الوقائع أن الفعل المقاوم لم يُسحق بل أعاد تنظيم نفسه، مستثمرًا في الفراغات التي خلفها الدمار ومستوطنًا زوايا الأرض المسحوقة لينبت من ركامها طاقة صلبة قادرة على الفعل. في هذه اللحظة، حيث اعتمد العدو على النيران الموجهة من بعيد لتقليل خسائره البشرية، كانت المقاومة تبتكر معادلة جديدة: المعركة لا تُخاض من خطوط المواجهة الكلاسيكية، بل من أنقاض البيوت، ومن السراديب الضيقة، ومن داخل الجغرافيا التي تموت وتقاتل في آن. إستراتيجيات المقاومة: من الكمائن إلى التفوق العملياتي
ليس من قبيل المصادفة أن تتحول الكمائن إلى العصب الرئيس للعمليات الجارية. إن تراجع الجيش الغازي إلى ما يُسمى بـ"المناطق العازلة" واكتفاءه بالقصف الجوي جعل المواجهة البرية محدودة ومضطربة. هنا تَفرض قواعد حرب العصابات نفسها: مجموعات صغيرة مرنة، تضرب وتنسحب، تستنزف الخصم مادياً ومعنوياً، وتفتح جبهات متفرقة لا يستطيع أن يغلقها جميعها مهما بلغت قوته النارية. القنص، الهجمات بقذائف "الياسين"، العبوات الناسفة المزروعة بدقة، الكمائن المحكمة في الشجاعية وتل السلطان وبيت حانون..إلخ. كلها ليست عمليات عشوائية بل تعبير عن تكتيك منظم هدفه كسر إيقاع الجيش المتفوق تقنياً وإجباره على الانكشاف في مسرح قتالي يحكمه المقاوم. لقد تجاوزت المقاومة فكرة المواجهة الرمزية إلى تطوير عمليات نوعية تعتمد على خبرة طويلة في استغلال التضاريس، وقراءة العدو، والضرب في اللحظة الحرجة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوفه.
الهزيمة النفسية للعدو أمام صلابة المقاتلين
بعيداً عن الأرقام الباردة، تحمل الاشتباكات الأخيرة رسائل نفسية مدوية: هذا العدو، المدجج بكل أدوات الموت، بات عاجزاً عن حماية نفسه حتى وهو يتحرك ضمن قوة احتياطية محصنة. مشاهد الإخلاء تحت النار، وتعثر عمليات الإنقاذ لساعات طويلة، وتحول المهمات الهجومية إلى معارك دفاعية فاشلة، كلها تعكس انهياراً ميدانياً وأخلاقياً يصعب ترميمه ببضع تصريحات رسمية أو حملات إعلامية مضادة. كل قناصة تختار أهدافها بثقة، كل قذيفة “آر بي جي” تخترق دبابة، كل عبوة ناسفة تزرع في طريق القوة المهاجمة، هي بمنزلة تصويت عملي على فشل المشروع العسكري برمته، وعلى هشاشة كل معادلات القوة التي طالما تم تسويقها. لقد تحول المقاتل الفلسطيني، العامل في بيئة شبه مستحيلة، إلى عقدة عملياتية للجيش الذي كان يُفترض أنه الأكثر تطوراً في المنطقة، ما جعل القادة العسكريين يعترفون ضمنياً أن حرب الاستنزاف باتت تستنزفهم هم قبل أن تستهلك العدو المفترض.
الكمين كممارسة للسيادة الوطنية بعيدًا عن المنطق العسكري البحت، ينبغي النظر إلى الكمائن باعتبارها ممارسة سيادية. المقاومة تقول للاحتلال عمليًا: "هذه أرضنا، نحن من يقرر قواعد القتال، أنتم هنا غرباء، وأنتم من سيدفع الثمن."إن نصب كمين، في وسط حي مدمر، ضد وحدة متقدمة من جيش الاحتلال، هو فعل سيادي بامتياز، يعيد رسم معادلة السلطة: القوة ليست لمن يحتل الأرض بالدبابات، بل لمن يملك الإرادة لقتال المعتدي حتى آخر لحظة. كما أنه حين ينصب المقاوم كمينًا لرتل عسكري "إسرائيلي"، فهو لا يقوم بعمل عسكري بحت. إنه يقوم بفعل تاريخي: يؤكد أن الحق لا يُمحى بالقوة، وأن إرادة الحرية قادرة على تحويل أبسط الأدوات إلى معاول لهدم أعتى قلاع الظلم.
المعادلة الجديدة: إرادة غزة في مواجهة هندسة الإبادة
في الصراع الجاري، لا تدور المعركة فقط حول السيطرة على الأرض، بل حول تكسير الهندسة الاستعمارية التي أُعدت لإبادة كل ما هو حي ومقاوم في غزة. فكل بيت مهدّم يصبح ساتراً، وكل حارة مدمرة تتحول إلى كمين محتمل، وكل نفق مدفون هو شريان مقاوم ينبض رغم الردم والقصف. في مقابل كل محاولة لاجتثاثها، تخرج المقاومة أكثر التصاقًا بأرضها، وأكثر قدرة على تفكيك الماكينة العسكرية المعادية. والأهم أن هذه الإستراتيجية لا تنتصر فقط في الميدان، بل ترسم خطوطًا جديدة على خريطة الوعي العربي والعالمي: أن غزة، رغم الحصار والموت، قادرة على إعادة إنتاج نفسها كحقيقة لا يمكن نفيها أو سحقها، وأن الإرادة الشعبية حين تتجسد في فعل مقاوم واعٍ تصبح أقوى من كل جيوش العالم مجتمعة.
وكما قلنا سابقًا بأنه: "حينما تفشل أي قوة غاشمة في إخضاع الضعفاء، ينكشف وجه الإمبراطورية الحقيقي، ويبدأ العد التنازلي لانهيارها." وغزة، بكل فداحة تضحياتها، تكتب هذا العد التنازلي اليوم، بدماء أبطالها، بوعي شعبها، وبكمائن مقاتليها الذين أثبتوا أن الضعف المادي قد يتحول إلى أعظم أسلحة القوة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
01/05/2025
ماذا يستفيد العراق من تفاهم أميركا وإيران؟
29/04/2025
كيف سقطت "F18" الأميركية في البحر الأحمر؟
29/04/2025
الشرع يقبل بما رفضه الأسد
28/04/2025
إعادة الإعمار واجب وطني لا مساومة فيه
التغطية الإخبارية
لبنان| تعميم يتعلق بالتدابير حول تحديد محيط مركز الاقتراع
فلسطين المحتلة| مصابون بغارة لطيران الاحتلال على مبنى سكني على طريق رفح الغربية في خان يونس
وزير الخارجية العماني: تأجيل جولة المفاوضات الرابعة بين إيران وأميركا إلى موعد يتم الاتفاق عليه بين الطرفين
الخارجية الإيرانية: تغيير موعد الجولة الرابعة من المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة باقتراح من وزير الخارجية العماني
اليمن| السيد الحوثي: العدو يعمل في خطين متوازيين حرب صلبة عسكرية تدميرية وحرب ناعمة مفسدة مضلة للتأثير على النفوس
مقالات مرتبطة

نتنياهو يثير غضب عائلات الأسرى: إعادتهم ليست الهدف الأعلى في الحرب

"يديعوت أحرونوت": إجلاء جرحى دروز من سورية إلى الأراضي المحتلة

شهداء بالعشرات.. تصعيد إسرائيلي متواصل في غزة

"رايتس ووتش" تحذّر: إعادة هيكلة الخارجية الأميركية تؤدّي لتقويض حقوق الإنسان والعدالة

القوات المسلحة اليمنية تهاجم حاملة الطائرات الأميركية "فينسون" و4 أهداف صهيونية في يافا وعسقلان

عشرات الشهداء في قصف "إسرائيلي" مستمر على المناطق الشرقية لقطاع غزة
