مقالات

رفع العقوبات عن سورية.. بداية لضمّ دمشق إلى التطبيع
يتوجب النظر إلى الأمام ورؤية ما إذا كانت واشنطن ستُبقي بعض القيود والضغوط على سورية بانتظار تحقّق بعض الأهداف
شكّل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الرياض رفع الإجراءات الاقتصادية الأميركية الأحادية الجانب عن سورية مفاجأة للكثير من المتابعين، وتحديدًا في توقيته. صحيح أن هذه الإجراءات حققت غرضها الأساسي بعد تغيير النظام في دمشق وكان من المنطقي رفعها بعد سقوطه مباشرة، لكن الإدارة الأميركية دأبت على استخدام هذه الإجراءات للوصول إلى نتائج مضمونة.
من المعروف أن الإدارات الأميركية المتعاقبة عملت على عزل سورية اقتصاديًا منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي بسبب دعمها للمقاومة الفلسطينية، ثمّ عززت هذه السياسة بعد اندلاع أحداث 2011 متّخذة من سردية "قمع الشعب السوري" ذريعة لفرض عقوبات ألحقت باقتصاد سورية وشعبها ضررًا جسيمًا. وفي ولاية ترامب الأولى، وتحديدًا في 2019 حين كانت واشنطن تعمل على "صفقة القرن" والدفع باتّجاه توقيع اتفاقيات التطبيع بين دول عربية و"إسرائيل"، تم تصميم هذه العقوبات لهدف إستراتيجي وهو حمل النظام في سورية على تغيير توجهاته الرئيسية، سواء في ما يتعلق بقطع روابطه مع إيران ومحور المقاومة أو التقارب مع الكيان الصهيوني.
وقد لعبت العقوبات دورًا في إضعاف سورية اقتصاديًا وإحداث حالة تململ واسعة من الوضع المعيشي، وهيأت المناخ لتقبّل سقوط النظام بفعل تضافر عوامل عدة أخرى من بينها الحرب الإسرائيلية - الأميركية المفتوحة على قطاع غزّة ولبنان وسورية بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وهجمات الجماعات المسلحة في سورية التي استغلت العدوان "الإسرائيلي" للتقدم في اتّجاه دمشق والسيطرة عليها.
لماذا لم تُرفع "العقوبات" قبل ذلك؟
الواضح أن الإدارة الأميركية أخّرت رفع الحصار الاقتصادي عن سورية بهدف جلب النظام الجديد إلى "بيت الطاعة"، والتأكد من امتثاله لشروط أميركية عدة أبرزها اتّخاذ خطوات إيجابية باتّجاه "إسرائيل" وضمان مصالح اقتصادية أميركية بحيث تكون للشركات الأميركية الأولوية في استثمار قطاعات وبنى تحتية سورية.
وقد اتّخذ رئيس الإدارة المؤقتة أحمد الشرع خطوات للتودد نحو "إسرائيل" وأوصل رسائل عبر وسطاء يهود أميركيين، مؤكدًا أنه يريد السلام مع جميع "جيرانه"، ثمّ أعلن بنفسه في السابع من أيار/ مايو الجاري أنه يخوض مفاوضات غير مباشرة مع "إسرائيل" عبر وسطاء من أجل تهدئة الأوضاع. وكشفت مصادر لوكالة "رويترز" أن الإمارات قامت بإنشاء قناة اتّصال سرية بين "إسرائيل" وسورية في أعقاب زيارة الشرع إلى أبو ظبي. كما امتنع الأخير عن اتّخاذ أي موقف عملي في مجابهة الاحتلال "الإسرائيلي" لأراض جنوب سورية والاعتداءات الواسعة التي أدت إلى تدمير بنى تحتية عسكرية، كما امتثل لـ "خط أحمر" "إسرائيلي" بعدم التعرض للمعارضين الدروز في ريف دمشق وجنوب سورية. وتُرجم ذلك كله في الأيام الماضية بتوقف الغارات الإسرائيلية بشكل ملحوظ على سورية.
أما بالنسبة للعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، فقد عرض الشرع مجموعة خطوات لإغراء ترامب برفع العقوبات. وذكرت مصادر لرويترز قبل لقاء الشرع - ترامب بترتيب سعودي في الرياض أن بناء برج ترامب في دمشق وتهدئة التوّتر مع "إسرائيل" ومنح الولايات المتحدة حق الوصول إلى النفط والغاز السوري تندرج جميعها في خطة إستراتيجية الشرع للقاء دونالد ترامب خلال زيارته إلى المنطقة. وعمل جوناثان بيس وهو رجل أعمال أميركي يهودي يرأس شركة للغاز الطبيعي ومؤيد لترامب على ترتيب مقدمات هذا اللقاء خلال اجتماع طويل عقده مع الشرع في دمشق في 30 نيسان / إبريل الماضي، وقال بيس حينها إن "الشرع يريد صفقة تجارية لمستقبل بلاده"، مشيرًا إلى أن هذه الصفقة قد تشمل استغلال الطاقة والتعاون في مواجهة إيران والتعامل مع "إسرائيل".
وأفصح ترامب، من جهته، عن طبيعة شروطه لرفع الحصار عن سورية، عندما دعاه علنًا في الرياض إلى طرد "الإرهابيين" الفلسطينيين من سورية والانضمام إلى اتفاقيات التطبيع مع "إسرائيل"، كما أشار البيت الأبيض إلى أن الشرع أبلغ ترامب خلال لقائهما أن دمشق "تدعو الشركات الأميركية للاستثمار في قطاعي النفط والغاز السوريين". ومعلوم أن القوات ألأميركية وضعت يدها على أغلب حقول النفط والغاز في شرقي سورية بعد سيطرة قوات "قسد" عليها في الحرب التي بدأت عام 2011.
دوافع القرار
يُنظر إلى الخطوة الأميركية تجاه سورية على أنها تأتي حصيلة دوافع عدة:
1 - مطالبات إقليمية ودولية: وقد جاءت هذه المطالبات من طرف حلفاء أميركا في المنطقة، وخاصة السعودية وتركيا وقطر، إضافة إلى بريطانيا وفرنسا، بهدف تعزيز حضور هذه الدول في "سورية الجديدة". ووفقًا لتصريحات ترامب، جاء القرار بعد طلب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بعدما قدّم الأخير جزرة كبيرة للرئيس الأميركي تمثلت بتوقيع اتفاقيات استثمارية ضخمة بقيمة600 مليار دولار، شملت قطاعات الدفاع والطاقة والبنية التحتية.
2 - مصالح اقتصادية أميركية. وقد اصطحب ترامب معه إلى السعودية مجموعة من رؤساء الشركات الأميركية لترتيب علاقاتهم مع الجانب السوري، إضافة إلى الجانب السعودي. ويستخدم ترامب السياسة الخارجية مجالًا لتحقيق انفراجات للاقتصاد الأميركي الذي يتهدّده الركود، وهذا يتطلب تخفيف الالتزامات العسكرية تجاه الحلفاء وتقليل الانخراط في النزاعات الإقليمية.
3 - تحسين صورة أميركا في المنطقة، من خلال إظهار "الجانب الإنساني" لسياساتها.
4 - تسويق صورة إيجابية لترامب بوصفه رجل السلام والحلول السياسية وإنهاء الحروب الطويلة. ويقال هنا إنه يسعى إلى الحصول على جائزة نوبل للسلام من أجل إرضاء نزعته لتحقيق نتائج "مذهلة" وأرقام قياسية، وربما أيضًا لأن لديه غيرة من الرئيس الديمقراطي الأسود باراك أوباما الذي حصل على جائزة نوبل للسلام عام 2009 من بوابة "تقوية الدبلوماسية الدولية".
قيود محتملة
من دون شك، فإن إلغاء العقوبات عن سورية هو حق لسورية وشعبها في كلّ وقت، قبل تغيير النظام وبعده، وذلك لأنها إجراءات أحادية غير قانونية بُنيت على مبدأ العقاب الجماعي وأضرّت كثيرًا باقتصاد سورية وشعبها، جنبًا إلى جنب مع الحرب التي قادها حلفاء أميركا لتغيير وجهة سورية وتموضعها في الصراع مع "إسرائيل". وبالتالي، فلا مبرر للدعوة إلى شكر ترامب الذي كان قد دفع باتّجاه تعزيز إجراءات حصار سورية وفاخرَ بأنها كانت "مُشلّة للغاية وقوية للغاية". وإذا كان بعضهم يقول إن التراجع عن الخطأ يستوجب الشكر، فهو يبسّط تفسير الدوافع الأميركية التي تريد وضع سورية ضمن مجال هيمنتها وهيمنة حليفتها "إسرائيل".
ولا بد من الإشارة إلى أن مجموعة الشروط التي قبل بها الشرع عُرض أقل منها على الرئيس السابق بشار الأسد، حيث وُضع رفع العقوبات مقابل قطع سورية العلاقة مع محور المقاومة وعلى رأسه إيران، وكان هذا شرطًا أساسيًا للانفتاح العربي الرسمي على دمشق، وكانت الإدارة الأميركية تؤيد هذا المسعى. وحتّى بعدما اتّخذت الدول العربية المعنية قرار إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سورية في أيار/ مايو 2023، توقف مسار التقارب لاحقًا بسبب الضغط الأميركي من أجل تحقيق تنازلات من دمشق، ولم يُسمح لهذه الدول بأية مبادرات استثمارية في سورية بهدف إيصال الحصار إلى غايته المرجوة.
وعليه، يتوجب النظر إلى الأمام ورؤية ما إذا كانت واشنطن ستُبقي بعض القيود والضغوط على سورية بانتظار تحقّق بعض الأهداف، مثل وجود قواتها في شرق سورية (تعارض "إسرائيل" هذا التوجّه وسبق أن عطّلته في ولاية ترامب الأولى) ووضع شروط لرفع كامل عقوبات "قانون قيصر" التي فرضها الكونغرس. كما يتوجب رؤية ما إذا كان الشرع قادرًا على الذهاب بعيدًا في علاقاته مع "إسرائيل"، وهو ما قد تكون له تبعات عليه في الداخل، وكذلك هل سيكون بإمكانه تنفيذ شروط أخرى مثل الكشف عن برنامج الأسلحة الكيميائية السورية، والتخلص من المقاتلين الأجانب الذين ساندوه في الحرب ويقومون الآن بممارسات متشددة لتطبيق رؤاهم الخاصة.