مقالات

زيارة توم براك إلى لبنان: مرونة أميركية مفاجئة
السبب عدم التعكير على مفاوضات "السلام" بين دمشق و"تل أبيب"
شكلت زيارة الموفد الأميركي الخاص توم براك إلى بيروت تطوّرًا لافتًا في المشهد السياسي اللبناني، ليس فقط لما حملته من إشارات دبلوماسية مباشرة، بل أيضًا لما انطوت عليه من رسائل مبطّنة تعبّر عن تحوّل تكتيكي في مقاربة واشنطن لملفّ بالغ الحساسية يتمثل بسلاح حزب الله. فقد بدا واضحًا أن اللهجة الأميركية، التي لطالما اتّسمت بالحزم والضغط في هذا الملف، قد تبدّلت فجأة إلى قدر من المرونة غير المتوقعة، تمثّلت بتوصيف ملف سلاح الحزب على أنه "شأن داخلي لبناني"، وهو توصيف نادر في القاموس الأميركي إزاء هذا الموضوع.
هذا التحوّل لا يمكن عزله عن السياق الإقليمي الأوسع، وتحديدًا ما يدور في دمشق من مفاوضات جدّية بين السلطات السورية الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، والجانب "الإسرائيلي"، إذ تسير هذه المفاوضات بوتيرة متسارعة، مدفوعة برغبة متبادلة في التوصّل إلى اتفاق "سلام شامل" يُنهي عقودًا من التوّتر والصراع المباشر وغير المباشر بين الطرفين. وفي هذا السياق، يبدو أن الإدارة الأميركية، الساعية منذ عقود لرعاية تسوية شاملة في "الشرق الأوسط"، تضع ثقلًا كبيرًا خلف هذه المحادثات، وترى فيها فرصة نادرة لتحقيق اختراق إستراتيجي في البنية الأمنية والسياسية للمنطقة.
من هذا المنطلق، يمكن فهم المرونة الأميركية في لبنان باعتبارها جزءًا من تكتيك أكبر يهدف إلى تجنّب أي تصعيد أو توتير للساحة اللبنانية قد ينعكس سلبًا على مسار المفاوضات السورية - "الإسرائيلية". فالولايات المتحدة، على ما يبدو، لا تريد أن تتسبب بإشعال جبهة جديدة في لبنان، قد يُستثمر فيها حزب الله، بدعم من أطراف إقليمية، لتعطيل مسار التسوية أو لتحسين الشروط التفاوضية.
ويُرجّح أن واشنطن تدرك أن حلّ ملف سلاح حزب الله قد لا يكون ممكنًا -ولا حتّى ضروريًا- في هذه المرحلة بالذات، بقدر ما يُفضّل تأجيله إلى ما بعد التوصّل إلى "اتفاق سلام" سوري - "إسرائيلي". ذلك أن هذا الاتفاق، إذا تحقق، سيُفضي بالضرورة إلى إعادة رسم معادلات النفوذ والتحالفات في المنطقة، وسينتج عنه تفكك تدريجي لمرتكزات "محور المقاومة"، خصوصًا إذا ترافقت التسوية مع ضمانات أمنية واقتصادية لسورية، وانفتاح سياسي على النظام الجديد في دمشق.
أما في ما يتعلّق بلبنان، فإن الأميركيين يبدو أنهم يراهنون على معادلة مزدوجة: فمن جهة، ستُفقد المقاومة اللبنانية، في حال انخراط سورية في "سلام رسمي مع إسرائيل"، أحد أبرز أركان دعمها الإقليمي والإستراتيجي، ومن جهة أخرى، يمكن عندئذٍ تفعيل أدوات داخلية، سياسية وربما حتّى أمنية، للضغط على حزب الله لنزع سلاحه، سواء عبر تفاهمات داخلية مدعومة دوليًا، أو في حال رفض الحزب، عبر خلق ظروف تؤدي إلى صدام داخلي، يُستخدم فيه عنوان "استعادة سيادة الدولة" كمبرر لحسم عسكري.
إن قراءة كهذه تطرح احتمالين متوازيين: إمّا أن تتحقق صفقة إقليمية تُفضي إلى تحوّلات كبرى في تموضع قوى الممانعة، ما يدفع الحزب تدريجيًا إلى إعادة تموضع سياسي-أمني، أو أن تدفع الضغوط المتراكمة، الإقليمية والمحلية، نحو خيار تفجيري يعيد لبنان إلى مربع الصراع الداخلي. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن الأميركيين قد قرروا تأجيل الاشتباك مع حزب الله الآن، بانتظار ما ستؤول إليه المفاوضات الجارية في دمشق، والتي قد تغيّر قواعد اللعبة في المنطقة برمّتها.
في المحصّلة، لا تعبّر مرونة توم براك عن تبدّل جذري في الموقف الأميركي من حزب الله، بل عن قراءة ظرفية تتوخى تجنّب التشويش على مسار يبدو أكثر أهمية وإستراتيجية بالنسبة لواشنطن حاليًا: السلام السوري - "الإسرائيلي". لكن ما بعد هذا السلام، إن تحقق، قد لا يشبه ما قبله.