مقالات

منذ اللحظة الأولى لانفجار العبوة الناسفة التي استهدفت وحدة استطلاع "نخبوية إسرائيلية" قرب رفح، كان واضحًا أن المشهد يتجاوز مجرد "اشتباك موضعي". نحن إزاء عملية مركّبة، محكمة التخطيط، ذات أبعاد عسكرية واستخباراتية ومعنوية متداخلة، تشير إلى وجود عقل إستراتيجي يعمل من تحت الأنقاض والركام، ويمسك بزمام المعركة بمرونة وتصميم. في كمين خان يونس الأخير، تتجلى إحدى أهم العقائد القتالية التي تميّزت بها حركات المقاومة في فلسطين، وبخاصة كتائب القسام: عقيدة الأسر. لكنّها هذه المرة لا تظهر كتكتيك منفصل، بل كمكون أساسي في بنية الصراع، يجري تنفيذه وسط نار الحرب الشاملة، وفي قلب المناطق التي يُفترض أن "الجيش الإسرائيلي" يسيطر عليها ميدانيًا.
خلية خان يونس: أكثر من اشتباك ميداني
بحسب الرواية "الإسرائيلية"، فقد نصبت خلية مكونة من 12 مقاتلًا كمينًا لقوات الاحتلال على محور إمداد أنشأه الأخير في خان يونس، واستخدمت فيه القذائف والرشاشات، وانسحبت قبل تنفيذ العملية إثر "كشفها"، فيما فشل "الجيش" باغتيال عناصرها. ولكن قراءة الوقائع تشير إلى ما هو أبعد من ذلك. فالإشارة إلى أن المقاتلين انسحبوا عبر نفق بعد أن "تراجعوا" عن تنفيذ العملية، تعني ببساطة أن الخلية لم تُفاجأ، بل راقبت ورصدت، وقررت في اللحظة الحرجة الانسحاب إلى خطوط خلفية آمنة دون خسائر. هذا السلوك لا ينتمي إلى نمط حرب العصابات التقليدية، بل إلى تكتيك حرب مرنة تحت الأرض، يستخدم الفضاء الجغرافي بشكل معكوس لما يتوقعه العدو.
إن أحد أبرز ما تكشفه هذه العملية هو أن المقاومة -وعلى رأسها القسام- لا تعمل كجماعات مشتتة تنفذ عمليات موضعية، بل تتحرك كجسم عسكري - استخباراتي منظم، يجيد التخطيط، ويتقن الحرب النفسية، ويوظف التضاريس والوقت كأدوات إستراتيجية.
الأسر كعقيدة لا كفرصة
منذ تأسيسها، اعتبرت المقاومة الفلسطينية أن أسر الجنود ليس غاية بل وسيلة؛ وسيلة لإعادة التوازن في مفاوضات تبادل الأسرى، ولتحقيق مكاسب سياسية تعجز عنها أنظمة وحكومات. عملية "الوهم المتبدّد" عام 2006 التي أسفرت عن أسر الجندي جلعاد شاليط، ثمّ "صفقة وفاء الأحرار" عام 2011 التي أطلقت أكثر من ألف أسير فلسطيني، كرّستا هذا المبدأ في الوعي الجمعي الفلسطيني.
لكن ما نشهده اليوم مختلف. فمحاولات الأسر في قلب المعركة - كما حدث في بيت حانون وجباليا والشجاعية وعبسان شرق خان يونس، أو كمين رفح - تحصل في ظروف استثنائية: احتلال كامل، قصف مكثف، طائرات استطلاع، حرب أرضية وجوية وبحرية متواصلة. ومع ذلك، تستمر المقاومة في السعي وراء الجنود، لا لقتلهم فقط، بل لأسرهم. ما معنى ذلك؟
المعنى أن المقاومة، وسط حرب إبادة، لا تزال ترى في "الإسرائيلي" - الجندي لا "المدني"- هدفًا إستراتيجيًا. لا تسعى إلى إبادة جماعية، كما يفعل الاحتلال، بل تلتزم بأهداف واضحة: أسر جنود لمبادلتهم، واستنزاف العدوّ سياسيًا ونفسيًا عبر عنصر المجهول.
مقاومة بخريطة وأجهزة استخبارات
في كمين خان يونس، كما في كمائن رفح وعبسان وغيرها، يبدو أن العمل الاستخباراتي صار جزءًا لا يتجزأ من الأداء الميداني. ليس فقط من حيث معرفة توقيت عبور القوات، أو محور الإمداد، بل في القدرة على قراءة نوايا الاحتلال نفسه. "فالجيش الإسرائيلي" بنى طريق "مجين عوز" لفصل شرق خان يونس عن غربها، معتقدًا أنه يقطع خطوط إمداد المقاومة، فإذا بالأخيرة ترد بكمين في قلب هذا المحور، وبأسلحة متنوعة، وبمفاجآت جغرافية تكسر "العقل "الإسرائيلي" الأمني".
إنها رسالة مزدوجة: من جهة، تعلن المقاومة أن الجغرافيا لم تُحسم بعد، ومن جهة أخرى، تسخر من يقين الاحتلال بأن بإمكانه السيطرة على الأرض من دون دفع ثمن باهظ.
تكامل الوسائط: الحرب غير المتكافئة تتفوق
يجب الإشارة هنا إلى نقطة مركزية: استخدام المقاومة أنواعًا متعددة من السلاح في آنٍ واحد: عبوات برميلية، قذائف هاون، صواريخ رجوم، اشتباكات راجلة، ليس مجرد استعراض قوة، بل أسلوب قتال جديد يجعل من كلّ مواجهة "معركة صغيرة" يمكن أن تتحول إلى حرب موضعية. هنا، تتفوق المقاومة على الاحتلال، لا في التكنولوجيا، بل في تكامل الوسائط، ومرونة التنسيق، والقدرة على صنع المفاجأة من العدم.
هذه النقطة تستحق الوقوف عندها في النماذج الإمبريالية، تُخاض الحروب عادة بالتفوق العددي والناري الساحق. لكن ما يهدّد هذه الإمبراطوريات ليس القوّة المضادة، بل اللامركزية المقاومة، والقدرة على صناعة الفوضى الخلاقة بيد الشعوب لا الأنظمة. وهذا ما نراه يتجلى في غزّة.
استنزاف القوّة… وسقوط وهم "النصر"
"إسرائيل"، في حربها المستمرة منذ 7 أكتوبر، قتلت نحو أكثر من ٥٠ ألفًا وجرحت أكثر من 80 ألفًا، بحسب مصادر فلسطينية، لكنّها بالمقابل، فقدت أكثر من 898 جنديًا (وفق اعترافها)، بينهم قادة كتائب وألوية، وأُصيبت وحدات نخبة بارتباك متكرّر. كلّ هذا مع عدم القدرة على احتلال غزّة، أو تفكيك المقاومة، أو إعادة الرهائن.
هنا، يعود السؤال: من يربح الحرب؟ القوّة العسكرية أم المعنى السياسي للمقاومة؟
إن كمين خان يونس، ومن قبله عبسان ورفح، يقدم نموذجًا لـ"الحرب السياسية بوسائل عسكرية"، فالمقاومة لا تسعى فقط إلى القتل، بل إلى فرض إرادتها، واستعادة المعنى، وتثبيت معادلة: البقاء في غزّة ثمنه فادح، والانتصار مستحيل.
الرسالة: الكفاح لم ينته بل تطوّر
في سياق عالمي منحاز، وإعلام دولي يتواطأ مع السردية الصهيونية، تشكّل هذه العمليات المكشوفة والمصوّرة - عبر فيديوهات القسام وغيرها - بروباغندا مضادة، تذكّر العالم بأن المقاومة ليست عصابة مسلحة بل عقل إستراتيجي منظم، يستلهم تكتيكات العصابات ويطوّرها إلى مدارس اشتباك حضرية ومعقّدة.
من هنا، لا يمكن النظر إلى كمين خان يونس إلا باعتباره حلقة من منظومة دفاع شعبي واسعة، تطبّق ما يشبه "اللامركزية القتالية"، وتحوّل كلّ متر من غزّة إلى فخ للاحتلال. إنها ليست مقاومة عشوائية بل مشروع تحرر يمتلك فلسفة واضحة، وهوية قتالية مستقلة، وعقيدة لا تموت: الأسر قبل القتل، والأمل قبل الاستسلام.
لا يمكن هزيمة من لا يعترف بالهزيمة
إن قراءة العمليات الأخيرة تكشف أن "إسرائيل" تخوض حربًا مفتوحة ضدّ خصم لم يعد يقاتل من أجل البقاء، بل من أجل فرض قواعد جديدة للّعبة. والمقاومة، في هذا السياق، تبدو كأنها تصوغ إستراتيجيتها الخاصة خارج منطق الردع التقليدي.
إنها لم تعد تطلب الاعتراف، بل تفرض الواقع. وإن كان للعقيدة العسكرية أن تُختصر في جملة، فهي:
لا نريد فقط أن ننجو، بل أن نكسر المعادلة.