مقالات
منذ ما بعد طوفان الأقصى وما تلاه من حروب وامتدادات إقليمية في مواجهة غزّة ولبنان وإيران، اعتمدت قيادات العدوّ إطارًا إستراتيجيًا جديدًا أُطلق عليه "المبادرة والهجوم". لم يَكُن هذا المصطلح مجرد موقف ظرفي بل كان تعبيرًا عن إستراتيجية عملياتية سرعان ما ترسّخ ضمن الخطاب الرسمي والإعلامي كأداة رئيسية لتشكيل المزاج الشعبي وتبرير العمليات الميدانية. في العلن، يُقصد به ضمان عدم إتاحة فسحة زمنية للخصم لإعادة البناء والتطوّر، وفي الواقع، يتحوّل إلى مشروع عملياتي يطال سياسات الدفاع والقدرات الاستخبارية، وفي العمق يمتد تأثيره إلى الاقتصاد والمجتمع ونسيج القرار السياسي داخل الكيان. هذه المقدمة لا تختزل الوقائع وإنما تفتح نافذة لفهم المنطق الذي يقف وراء الخيار، وخلفيات هذه العقيدة الإستراتيجية. ما هي مقوماتها التشغيلية؟ كيف تقابلها متغيرات محور المقاومة؟ وما السيناريوهات الممكنة ونتائجها على مَسْتَوَيَي الداخل والإقليم؟
منطق "المبادرة والهجوم"
الفكرة المركزية ليست عاطفية، إنما استنتاج عملي مبنيّ على ملاحظة معيارية: الردع التقليدي فقد من فعاليته أمام شبكة مقاومة متنامية ومشتبكة إقليميًا؛ الصواريخ، الاستعدادات البنيوية، شبكات الدعم الإقليمي، كلّ ذلك قلّص من فعالية هذا الردع طوال سنوات. لذلك، تحوّلت الفكرة إلى مقاربة هجومية: هاجِم الآن لتشل إمكانية الخصم من إعادة التجهيز لاحقًا. هذا التبدّل يعكس قناعة قيادية بأن الخطر في الانتظار أعظم من مخاطرة الاشتباك. لكنّه أيضًا رهان على قدرة التحمل السياسي والاقتصادي أمام تكاليف المواجهة.
أدوات التطبيق والآليات العملياتية
تُترجم الإستراتيجية عبر ضربات إقليمية متفرقة ومكثفة، هجمات استباقية على مرافق ووسائط لوجستية، وعمليات استخباراتية تستهدف خطوط إعادة التزويد والقيادة. تترافق هذه العمليات مع حملة إعلامية داخلية لصياغة خطاب يُبرر الاستنزاف ويحوِّله إلى واجبٍ "قومي"، ويُخفف من وقع الخسائر على "الشرعية المحلية". عمليًا، هذه الإستراتيجية تتطلب تحالفات دولية محدّدة (أميركية تحديدًا)، اعتمادًا على دعم تكنولوجي واستخباراتي مستمر، واحتواء سياسي على جبهة الداخل لضمان استمرار الإمداد السياسي والاقتصادي.
متغيرات محور المقاومة
أولًا، عنصر الاستعداد والصلابة: أثبتت التجربة أنه رغم الضربات القاسية التي وجهها العدوّ إلا أن ما تراكم لدى محور المقاومة من جاهزية تكتيكية وبنيوية، جعل من الصعب تحقيق "حسم" سريع أو منع طويل الأمد لإعادة البناء. ثانيًا، البنية العلمية والتقنية المتنامية -حتّى لو لم ترتقِ إلى مستوى التفوق النوعي للداعم الأكبر (الولايات المتحدة)- إلا أنها تقلل الفوارق وتزيد كلفة المواجهة. ثالثًا، الاستمرارية السياسية والاجتماعية داخل ساحات المقاومة: إذا بقيت الشعوب والأطر السياسية مصممة على المقاومة، فإن الضربات الفردية تتحول إلى دوافع لتطوير القدرات، لا إلى إضعاف طويل الأمد. رابعًا، احتمال حصول متغيرات إقليمية أو عالميّة غير محسوبة، وهذا متغير يملك القدرة على قلب المعادلة.
سيناريوهات محتملة
سيناريو الاستنزاف المديد: تدخل الإستراتيجية في حلقة من المواجهات المفتوحة دون نصر إستراتيجي حاسم، ما يؤدي إلى استنزاف الموارد "الإسرائيلية" مع نتائج محدودة نسبيًا.
الجدوى المحدودة: تحقق هجمات تكتيكية نتائج محلية ومؤقتة لكنّها لا تتناسب مع تكلفة الموارد والخسائر، فيتزايد الضغط الداخلي على صناع القرار.
المقابل التكتيكي المؤلم: تنتج عن الضربات ردود تكتيكية أو إستراتيجية من قِبل بعض أطراف محور المقاومة، تُكبّد العدوّ أثمانًا مباشرة قد تصل إلى مستويات تعطيل مؤقت للبنى التحتية أو لخطوط الإمداد.
تسارع البناء المضاد: إذا قررت قوى المقاومة تسريع وتيرة بناء القدرات، فسنشهد قفزات في نوعية القدرات وتكتيكات جديدة تلغي الكثير من نتائج الحروب السابقة وتؤسس لمعادلات وموازين جديدة. وذلك سيضع الكيان أمام استحقاقات سياسية واقتصادية حقيقية.
نتائج متوقعة
في الداخل "الإسرائيلي"، ستترتب آثار ملموسة: تراكم كلفة المواجهات على الاقتصاد، اهتزاز الرأي العام، وصعود منازعات سياسية حول منطق الإستراتيجية وفعاليتها. إقليميًا، قد تعيد الإستراتيجية تشكيل خرائط القوّة المحلية، فتُجبر دول على مواءمة مواقفها، أو تزيد من حدة التقاطعات والتصادمات الإقليمية. أما على المستوى العسكري، فستصبح دورة الاستهداف وإعادة البناء دائرة مستمرة تزيد احتمالات الانفجار الواسع في لحظة مغادرة أحد الأطراف لعتبة ضبط النفس.
في الخلاصة، يمكن التقدير أن إستراتيجية "المبادرة والهجوم" ليست خطةً تقليدية للانتصار السريع، بل هي رهان سياسي - عملي على أن التحكم بزمن العدوّ يمنحك ميزة؛ لكنّها رهانٌ معرض للارتداد حيث إن الزمن نفسه يبقي خصمك قويًا ومرنًا. من هنا، يصبح مقياس النجاح ليس فقط في ما إذا نجحت الضربات في تعطيل مؤقت، بل في قدرتها على تغيير حسابات التكلفة والمنفعة لدى الخصم والجمهور الداخلي معًا. أي إستراتيجية هجومية طويلة الأمد تقاس بقدرتها على إنتاج نتائج إستراتيجية ملموسة، أو على الأقل إحداث تراجع مستدام في قدرة الخصم على المبادرة، وإلا فإنها تدخل في حلقة استنزافٍ تُعيد تعريف الانتصار والهزيمة على نحوٍ لا يُحمد عقباه.